الإقامة في شرايين الأرض

03:35 صباحا
قراءة 6 دقائق
** يوسف أبولوز

كان أول «خرائطي» إذا جازت النسبة إلى الخريطة قد رفع رأسه إلى السماء، وتأمل مجراتها ونجومها وأفلاكها، ليرسم خريطة.. ومن درب التبانة، إلى بنات نعش، ومن النجم القطبي أو الدب القطبي، إلى برج الثور أو برج العذراء. من خطوط الطول إلى خطوط العرض، من خط الاستواء إلى المنعرجات الكوكبية السماوية، ومن السومري والبابلي والمصري القديم، إلى محمد الإدريسي، وابن الوردي، والمقدسي، وابن حوقل، والمسعودي، وغيرهم من متأملي الفلك ومتصوفته، والكثير منهم في الوقت نفسه شعراء وفلاسفة وموسيقيون وعلماء رياضيات وجبر وهندسة.
نشأت الخرائط بأحبار وأوراق وأقلام رسامين مَهَرة.. في البداية ولدت الخريطة على الفخار وجدران الكهوف وورق البردي، ثم تحوّل كل ذلك إلى صناعة وعلوم، فقد كان لا بد من رسم خريطة للأرض.
لا بد من صورة للأرض، ولا بد لها من كينونة تشكيلية مختلفة تماماً عن إبداع مخيلات رسامي اللوحات الجدارية المسندية، فرسام الأرض هو في حالته هذه، رسام جغرافيات وحدود وطبيعة لها أكثر من صفة وأكثر من اسم، وبين «خرائطيي» أمس البعيد، وأمس القريب، تغيرت الأرض، وتغيرت الجغرافيات والحدود، إما بفعل مخاضات وتحوّلات الطبيعة نفسها، وإما بفعل المناخ والبيئات المتحولة والحروب، وفي كل الأحوال كان «الخرائطي» يُغيّر أدواته، ويُغيّر أساليبه، وعليه دائماً وأبداً أن يدقق في الأرض التي هي مادة الخريطة، المادة المؤلفة من الجبال، والسهول، والأودية، والأنهار، والبحار، والبحيرات والكهوف والأدغال المفرودة على خطوط الطول وخطوط العرض.. المفرودة أيضاً، أو الموزعة على الجهات: من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب.
إن جهات العالم هذه هي الأطراف الأربعة للخريطة، جهات العالم هي حدود أية خريطة أو هي أوتادها الأربعة «كان المتصوف الكبير ابن عربي قد عرف محنة البحث عن أوتاده الأربعة».
خطوط الطول ودوائر العرض في لغة الفلك، هي شرايين أية خريطة، وإذا أردت مقاربة بعض رموز الحجب التي تصنع للسحر ببعض الرموز الفلكية تجد نفسك أمام خريطة أخرى صغيرة مصنوعة من الورق أو الجلد، وعليها رموز وإشارات وتعاويذ مكتوبة عادة بأقلام «الكوبيا» ذات اللون البنفسجي، ومرة ثانية، ثمة جهات وأسهم تشير إلى هذه الجهات في ورقة الحجاب أو في جلدة الحجاب.. وبكلمة ثانية أنت أمام خريطة، ملغّزة أو لغزية؛ خريطة معقودة أو ملمومة في أكثر من عقدة.
ابتعدت قليلاً عن عمل «الخرائطي» المنشغل بالأرض، وليس بالسحر، غير أن عمل هذا الخرائطي في حد ذاته هو عمل فني ينطوي على شيء من السحر.. ليس سحر الحجب والنفّاثات في العُقَد، ولكن سحر رسم خريطة أرضية جغرافية؛ خريطة الجبال والأنهار والبحيرات والأودية مثل ما هي عليه كما خلقها الله قبل أن يتولى «خرائطي» آخر رسم خرائط من نوع آخر هي الخرائط السياسية، وهناك أيضاً من يرسم الخريطة الاقتصادية، وآخر رسام خريطة سكانية، وغير ذلك من أخوات الخريطة الأولى.. خريطة الأرض.

البوصلة

البحر.. تيه أزرق يقابله تيه رملي آخر على الأرض، ولتجنّب التيه والضياع الأبدي في الماء يضع قبطان السفينة أمامه دائماً خريطة محكومة إلى البوصلة.. وهي أمثولة الإبرة والمغناطيس. عرفها الصينيون أولاً، ولكن لأغراض غير الملاحة البحرية (206 قبل الميلاد)، وإذا أردت أن أعود مرة ثانية إلى السحر، فقد تكون البوصلة الصينية قد اخترعت لهذا الغرض.
من دون خريطة وبوصلة، فالقبطان هو في قلب التيه لا محالة.. هذا التيه المائي المفخّخ عادة بالقراصنة.. وللقرصان أيضاً خريطته وبوصلته ومسالكه المائية التي يعرفها جيداً ربما أكثر من القبطان، فهو أي القرصان موارب ومغامر ومفاجئ عندما يظهر بغتة في عرض البحر، وهو أيضاً زئبقي (الزئبق أحد مكونات البوصلة التي تسمى البوصلة السائلة.. وقبلها اخترعت البوصلة الجافة).
القرصان زئبقي لأنه بحار التيه بامتياز. لا بد لضحيته أن تدخل التيه، إما بفقدان الخريطة أو بفقدان البوصلة عندما يغفل القبطان عن كليهما، أو عن واحدة منهما في عرض البحر، فيصبح لقمة متاحة للقرصان.

الجنرال والجدار

ينشر الجنرال خريطة عسكرية على الجدار، ويجتمع بضباطه ومعاونيه وبعض جنوده في غرفة مغلقة عادة، ويقف برتبته وقامته كاملاً، ليشير بعصاً صغيرة إلى الخريطة التي تتجه إليها في تلك اللحظة عيون الضباط والجنود والمعاونين.
في العادة يشير الجنرال إلى حدود وإلى خطوط وبقع ملوّنة على الخريطة.. إنها أهدافه التي يتوجب ضربها من الجوّ، أو الزحف إليها براً، أما الخريطة في هذه الحال فهي الدليل العسكري الذي كان أوصى به الجنرال لاستخدامه على الأرض.
في الحروب إذاً ثمة خريطتان؛ بل ثلاث: خريطة لسلاح الجو، وخريطة للجنود على الأرض، وخريطة ثالثة إن تطلب الأمر لسلاح البحرية الذي لا يعرف التيه، فهو مُدَجّج بالخرائط والبوصلات والرادارات. أما القرصان بكل نزوعه إلى المغامرة وخبرته في الاقتناص والانقضاض في عرض البحر، فإنه لن يجرؤ على الاقتراب من تلك السفينة المدججة بالسلاح، وإلا فهو هالك لا محالة.

مطويات

طالما أخذت الخرائط المستكشفين والرحالة والمغامرين وحتى الفضوليين إلى جهات العالم الأربع، لم يكن كريستوفر كولومبوس ليكتشف أمريكا من دون خريطة، وربما كانت معه حزمة من الخرائط، وأحمد بن ماجد البحار الجلفاري، والشاعر أيضاً لم تكن بوصلته إلى الهند لتدلّه إلى رأس الرجاء الصالح لولا خرائطه التي شغف بها وهو في السابعة عشرة من عمره، ملازماً لوالده البحار هو الآخر.
ابن بطوطة، فاسكو دي غاما، فرديناند ماجيلان، ماركو بولو، جون كابوت، ابن جبير الأندلسي، الحسن الوزان، حسن المراكشي.. وغيرهم المئات من شرق العالم وغربه، لم يعرفوا العالم وثقافاته وشعوبه وتاريخه إلا من خلال بوصلاتهم إلى هذا العالم.. وهي الخرائط.

حدود

مشهدان بارزان في أية خريطة: حدودها، وبالتالي، صورتها على الخريطة. وهنا حاولت العودة إلى مقالة قديمة للزميل الراحل، وأحد أساتذة كتابة العمود اليومي صالح الخريبي (أبو خلدون)، ذكر فيها ما معناه أن بعض البلدان تبدو على الخريطة شبيهة بأشكال الحيوانات، فهناك بلدان تشبه الدب على الخريطة، وهناك بلدان تشبه الطيور، وبعضها يشبه الخيل، وبعضها يأخذ منحى تشكيلياً أفقياً أو عمودياً، مستطيلاً أو مربعاً، وذلك كله بحسب الرسم الخرائطي الذي يتبع تعرّجات واستقامات وانحناءات خطوط الحدود.
على الخريطة تبدو الحدود بلا شرطة وبلا مواضعات الهجرة والجوازات.. على الخريطة لا منع ولا إغلاق للحدود؛ إنها إشارات.. أو تقطيعات ملوّنة جافة على الورق، ويمكن تجاوزها والطيران فوقها بلا تأشيرات مرور.

حرية بل حدود

على الخريطة، أو في الخريطة تحقق شيئاً من حريتك في التنقل والسفر والهجرة والترحال، ولعلها متعة شعرية أن تفرد أمامك خريطة العالم، وتتبع حدود دوله. تفتحها أنت كما تشاء، وتغلقها كما تشاء. تختار البلد الذي يشبه الحصان أو يشبه النسر، أو يشبه لوحة تجريدية، وتذهب من تلقاء نفسك إلى معرفة مساحته، وعدد سكانه؛ بل والإقامة الطوعية الذهنية فيه.
هل الخرائط فضاء آخر للحرية التي نحلم بها؛ حيث الإنسان المسكون بحلم الإقامة غير المشروطة في هذا العالم المؤلف من خرائط؟.
في رواية «عالم بلا خرائط».. الرواية المشتركة للكاتبين جبرا إبراهيم جبرا، وعبد الرحمن منيف، نعيش في مدينة متخيلة اسمها عمورية؛ مدينة التيه والتناقضات والبحث عن الذات.. البحث الذي يؤرّق علاء الدين نجيب، كما لو يبحث في عالم بلا خرائط عن بوصلة.

سايكس بيكو

في العام 1916، ولدت على يد البريطاني مارك سايكس، والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، أسوأ خريطة ظهرت في التاريخ العربي المعاصر عبر اتفاقية عُرفت باتفاقية «سايكس بيكو».
الخريطة التي تشبه اقتسام وليمة في النصف الأول من القرن العشرين بين فرنسا وإنجلترا، هي الأكثر شهرة في الأدبيات السياسية العالمية، ولم يكن ماركس سايكس، وفرانسوا بيكو، من رسما هذه الخريطة مباشرة، فقبلهما سياسيان داهيتان أيضاً هما من وقعا على الوثيقة: إدوارد جراي، وبول كامبون.
تشبه الخريطة حيواناً ممزقاً بأكثر من لون بعد مفاوضات سرية في البداية، وما لبثت المنطقة التي شملتها الخريطة أن تحولت إلى منطقة صراع سياسي حتى اليوم عنوانه العام: التقسيم. أما كارثية هذه الخريطة فهي تقع على الفلسطينيين بشكل خاص، الذين يدفعون ثمن مصطلح التقسيم الأسود حتى اليوم.

خريطة الطريق

في بدايات الألفية الثانية، ظهر مصطلح سياسي هو «خريطة طريق السلام» بين الفلسطينيين والكيان «الإسرائيلي» برعاية سياسية ودبلوماسية من الولايات المتحدة وروسيا ودول أوروبية، تحت مظلة الأمم المتحدة.
خريطة الطريق هذه ليست خريطة ورق أو لفائف أو قماش؛ بل هي خريطة زمنية، ولكن لم تُوصِل خريطة السلام إلى السلام، وظلّت طريق هذه الخريطة أو ظلت خريطة هذه الطريق، مزروعة بالفشل والأكاذيب.
شاع مصطلح «خريطة الطريق» في الأدبيات السياسية «الإسرائيلية» الفلسطينية أولاً، ثم أخذ سياسيون كثر يستعيرون المصطلح ليستوعب قضايا مختلفة عن القضية الفلسطينية؛ لا بل راح بعض الكتّاب إلى توظيف مصطلح «خريطة الطريق» في قضايا ثقافية صرفة. وفي كل الأحوال، تؤدي الطرق كلها في خرائط عديدة إلى مبتغاها.. إلا خريطة طريق واحدة هي الخريطة التي تقع عليها فلسطين.

تراث وفولكلور

هل الخرائط مطويات أو لفائف أو برديات.. مؤدية إلى المعرفة؟ نعم، بما في المعرفة العالمية الكونية من تاريخ وأساطير وميثولوجيات بعضها حي في الذاكرة الإنسانية، وبعضها اندثر أو كاد يندثر، وبعضها تحوّل إلى «خرائط» من التراث والفولكلور.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"