الاقتصاد العالمي يواجه خطر التراجع

00:42 صباحا
قراءة 5 دقائق
«إن صناع السياسات في أنحاء العالم عليهم تنقيح سياساتهم الاقتصادية، وإدخال التحسينات عليها لتعزيز النمو وتخفيض درجة عدم اليقين العالمي»، هكذا قالت لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي الذي يضم 188 بلداً عشية الاجتماعات السنوية للعام 2015 بين الصندوق والبنك الدولي في مدينة ليما عاصمة بيرو.

تحمل كلمات لاغارد تحذيراً من تراجع نمو الاقتصاد العالمي، فبالرغم من تحسن الاستقرار المالي في الاقتصادات المتقدمة، فلا تزال المخاطر كبيرة وتواصل التفافها نحو الأسواق الصاعدة، التي تساهم حالياً بدور أكبر في الاقتصاد العالمي، طبقاً لما ورد في أحدث إصدار لصندوق النقد الدولي من تقرير الاستقرار المالي العالمي.

ورغم أن بعض الاقتصادات الكبرى تشهدا نمواً واضحاً، إلا أن «الصندوق» خفض توقعاته لثلاثة اقتصادات كبيرة في منطقة اليورو هي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا فضلاً عن احتمالات تراجع النمو في اليابان، وقال إن «من الضروري أن تواصل الدول الغنية سياسة التيسير النقدي وخفض أسعار الفائدة».

والأرجح أن ثمة العديد من الأسباب التي تقف وراء تحذير صندوق النقد من مخاطر تراجع الاقتصاد العالمي الذي تعرض طوال الشهور التي خلت لهزة عميقة منها: احتمالات ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، وهو ما يؤثر كذلك في الاقتصادات الناشئة بسبب توقف المستثمرين عن وضع أموالهم فيها بحثاً عن عوائد أعلى.

ويرتبط العامل الثاني بتباطؤ النشاط الاقتصادي في الصين حيث يتوقع ألا يتجاوز نموه العام المقبل نسبة 6,3%، وهي الأقل منذ 25 عاماً، وهو ما سيؤثر سلباً في الاقتصادات الناشئة الأخرى التي تعتمد على شهية العملاق الآسيوي للمواد الخام.

وكانت البورصات العالمية قد شهدت طوال الفترة الماضية تراجعاً كبيراً نتيجة لهبوط سوق الأسهم الصينية الناجم عن تنامي المخاوف بشأن الاقتصاد الصيني، وجاءت هذه التراجعات بعد فشل السلطات الصينية في تحفيز الاقتصاد وإنعاش قطاع الصادرات، كما أن مساعي الحكومة الصينية لدعم السوق عبر السماح لصندوق معاشات التقاعد بالاستثمار في السوق المحلية للأسهم بنسبة لا تتجاوز 30% من أصوله التي تقترب من 550 مليار دولار لم توقف جماح موجة المبيعات القوية.

خلف ما سبق تشهد الاقتصادات الصاعدة هي الأخرى تراجعاً لا تخطئه عين، فعلى سبيل المثال تعاني البرازيل إضافة إلى تصاعد وتيرة الاحتقان السياسي الذي كشفته مناخات التظاهرات، تراجعاً في انكماش نموها الاقتصادي بنسبة 3%، وهو أسوأ من توقعات صندوق النقد الدولي الأخيرة في يوليو/تموز الماضي بنحو الضعف فضلاً عن تراجع معدلات النمو في تركيا.

ويعود العامل الرابع بحسب الصندوق إلى تفاقم أزمة اللاجئين في أوروبا، وتنامي وتيرة النزاعات في أوكرانيا ودول الشرق الأوسط الذي دخل المناخ في قطاع معتبر من دوله مرحلة الشحن، وبخاصة سوريا وليبيا واليمن فضلاً عن حال الاستقطاب السياسي في دول أخرى مثل تونس وموريتانيا وأيضا مصر التي يتوقع أن يظل نموها بطيئاً هذه السنة، إذ يبقى الأفق السياسي غير واضح، فما زالت السياحة وتدفقات الاستثمار عند حدها الأدنى، وبحسب توقعات الصندوق فإن الاقتصاد المصري سينمو بنسبة 2,7% في العام 2015 مقارنة بما كان عليه في العام 2013 حين وصل إلى 2,1%.

والأرجح أن التوترات الجيو سياسية ساهمت بدرجة كبيرة بحسب صندوق النقد في تعريض الأسواق العالمية للمخاطر، خصوصاً أنها أصبحت تشكل مخاطر متزايدة على الاقتصاد العالمي، وربما تؤدي إلى صدمة لأسعار النفط واضطرابات تجارية ومالية إذا تصاعدت حدة الصراعات.

كما نبه الصندوق إلى تصاعد موجات الجماعات الراديكالية في العالم، وبخاصة تنظيم «داعش»، الذي يسيطر على قطاع واسع من الأراضي في سوريا والعراق فضلاً عن الخلايا النائمة للتنظيمات الإرهابية المنتشرة في أوروبا وغيرها، والتي تمكنت من تنفيذ تفجيرات دامية،و انعكست سلباً على المستثمرين وقطاع الأعمال، حيث عادة ما تكون للأزمات الأمنية خصوصا في المناطق الحساسة من العالم تداعيات سلبية على أسواق المال العالمية.
في سياق متصل أثر انتشار الأوبئة والأمراض المزمنة على بعض الاقتصادات بحسب تقرير الصندوق، وفي الصدارة منها الدول الواقعة جنوب الصحراء الإفريقية، التي شهدت تفشي فيروس «إيبولا» الذي تم رصده في الغابات النائية شرق غينيا في مارس/آذار 2014، وأودى بحياة نحو 4546 مواطناً من أصل 9191 إصابة تم إحصاؤها، معظمهم في ليبيريا وسيراليون وغينيا.
والأرجح أن ثمة انعكاسات سلبية خلفها ظهور إيبولا على اقتصادات دول غرب إفريقيا، فمثلاً أنفقت ليبيريا أكثر من 40 مليون دولار من الاحتياطي النقدي منذ أغسطس/آب 2014، لمواجهة تفشي وباء إيبولا. وكانت وكالة موديز للتصنيف الائتماني حذرت من أن وباء إيبولا قد تنجم عنه عواقب اقتصادية ومالية واسعة على بلدان المنطقة التي تعول كثيراً على المواد الأولية وتعاني أوضاعها المالية التبعية والهشاشة. كما كان صندوق النقد الدولي أول من حذر من «إيبولا»، وكشف عن احتمالات أن يؤدي إلى تراجع حاد للنمو الاقتصادي في غينيا وليبيريا وسيراليون، ويزيد حاجات التمويل في الدول الثلاث التي تحصل حالياً على قروض من صندوق النقد ضمن برنامج الصندوق للإقراض الطويل للدول الفقيرة التي تعاني مشاكل مزمنة في ميزان المدفوعات، كما كشفت تقديرات البنك الدولي عن أن الخسائر الإقليمية الناجمة عن وباء إيبولا في غرب إفريقيا قد تصل إلى 32.6 مليار دولار بنهاية عام 2015.
صحيح أن صندوق النقد كشف في تقريره الأخير عن احتمال ارتفاع وتيرة النمو في دول جنوب الصحراء لتصل إلى 5,8% بنهاية العام 2015 إلا أنه حذر من عواقب اقتصادية شديدة إذا ما استمر تفشي «إيبولا».
وأثارت توقعات صندوق النقد الدولي قدراً من المخاوف، لاسيما أنها جاءت كاشفة عن احتمالات صعوبة تراجع معدلات البطالة والفقر الذي يقض مضاجع قطاعاً واسعاً من الدول فضلاً عن تزايد فرص انخفاض الاستثمارات العالمية، والتي ترتبط في جزء منها بتراجع إنتاجية العمال وزيادة الأجور.
المهم أن مخاوف الصندوق بشأن تراجع معدل النمو العالمي فتحت الباب واسعاً أمام فرص التحايل والقفز على الواقع الاقتصادي العالمي المأزوم، وكيفية الخروج الآمن حتى لا تتكرر مأساة العام 2009 التي أدت إلى جمود الاقتصاد الدولي، وأطاحت قطاعاً واسعاً من الاقتصادات الناشئة آنذاك. ففي الوقت الذي تحاول الاقتصادات الكبرى حماية نفسها، وإعادة النظر في سياستها الاقتصادية بما يضمن مصالحها، دعت لاغارد إلى ضرورة التعاون بين المجتمع الدولي، وقالت على هامش اجتماعات الصندوق في بيرو «إنه على غرار قصة النجاح العالمي التي سجلها المطبخ البيروفي بتنقيح وإدخال التحسينات على وصفات أطباقه التقليدية ينبغي لصناع السياسات على مستوى العالم أيضا أن يفعلوا الأمر نفسه».
ولعل كلمات مديرة الصندوق لتجاوز التوقعات السيئة للاقتصاد العالمي جاءت لتدق ناقوس الخطر، ولعلها تدعو إلى ضرورة بناء استراتيجية عالمية تحظى بتعاون دولي، وأن يفكر العالم بعقلية مشتركة عنوانها الأبرز المصلحة للجميع لضمان المحافظة على معدلات النمو الراهنة ودفعها قدماً للأمام. كما يجب أيضا توخي اليقظة إزاء آثار التداعيات الاقتصادية المتوقعة، وكان بارزاً، هنا، دعوة صندوق النقد الدولي للبنوك المركزية في الاقتصاديات المتقدمة على مراعاة مخاطر التداعيات التي تترتب على قراراتها بشأن السياسات، كما ينبغي على الاقتصادات الصاعدة أن تقوم بمعالجة حاسمة لمشكلة تراكم الرفع المالي والدين الأجنبي في قطاع الشركات.
القصد أن التكامل الاقتصادي بين دول العالم والتعاون هو أمر لا غنى عنه لتجاوز توقعات الصندوق السيئة، فضلاً عن دور معتبر للصندوق يتمثل في أن يكون أكثر سرعة في التحرك والتنسيق مع أعضائه من أجل دعم الاقتصادات الناشئة والحفاظ على الاقتصادات الضعيفة ومنع انهيارها، فضلاً عن كبح جماح الاقتصادات المتقدمة التي ما زال بعضها يكرس مصالحه فقط.

كرم سعيد ٭

٭ صحفي بمؤسسة الأهرام

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"