الاكتئاب وقرن آمون

أسبابه تتجاوز الخلل في التوازن الكيميائي
18:21 مساء
قراءة 4 دقائق

في النهاية، تمكنت شيلاين وزملاؤها من جامعة واشنطن في سانت لويس، من الحصول على منحة صغيرة للقيام بعملية مسح شعاعي لأدمغة عشر نساء أصبن بنوبات متكررة من الاكتئاب الأساسي وعشر نساء أخريات شكلن مجموعة الضبط.

وجاءت النتائج مذهلة للجميع، حيث تبين أن منطقة عميقة تحت نصفي الكرة الدماغية اسمها قرن آمون، كانت أصغر بنسبة 15% لدى النساء المصابات بالاكتئاب، كما تبين انه كلما طالت فترة الإصابة بالاكتئاب كلما كان حجم قرن آمون أصغر.

والواقع أنه لا يمكن تفسير هذه النتائج بناء على النظرية السائدة التي ترجع سبب المرض إلى انخفاض مستوى نواقل عصبية في الدماغ منها السيروتونين، التي تنقل الإشارات من خلية عصبية إلى أخرى، وبالتالي فإن نقصها يعيق سرعة الاتصالات الدماغية.

وبدت هذه النظرية محكمة جدا خصوصا بعد النجاح الكبير الذي حققته مضادات الاكتئاب المصنفة وفقا لتأثيراتها على النواقل العصبية، بما في ذلك تلك التي ترفع مستويات السيروتونين، والنورادريرنالين، أو الهرمونين معاً.

لقد صمدت هذه النظرية ل40 عاما، بيد أن الاختلافات التشريحية الجديدة نسفتها من جذورها. فقد تبين أن أسباب مرض الاكتئاب لا تقتصر فقط على انخفاض مستوى النواقل العصبية، بل قد تشمل خللاً دائماً في الدماغ. ورغم أنه لا يوجد أي خلاف على أن المواد الكيميائية مثل السيروتونين، تلعب دورا مهما في المزاج، إلا أن النتائج الجديدة بدأت تثير بعض الشكوك المزعجة حول نظرية الأمينات الأحادية الخاصة بالاكتئاب.

ويقول جورج زوبنكو، خبير علم الوراثة والاكتئاب في جامعة بيتسبيرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية كنا نقول للمرضى المصابين بالاكتئاب إن مستوى السيروتونين منخفض عندهم وسوف يتماثلون للشفاء بتعويضه. هذه رواية بسيطة ومريحة ولكنها غير صحيحة.

وفي حين كان معروفا أن جرعة واحدة من مضاد اكتئاب، تكفي لتعزيز مستويات النواقل العصبية في غضون ساعات، إلا انه لا بد من مضي بضعة أسابيع قبل أن يشعر المريض بأي تحسن.

وعلى الرغم من أن لمضادات الاكتئاب الحديثة عدداً أقل من التأثيرات الجانبية مقارنة بالقديمة، إلا أنها لا تمثل العلاج السحري، حيث انه لم يشهد سوى حوالي 50% من المرضى الذين يتناولونها تراجع أعراض المرض بالكامل، ناهيك عن أن جزءا من هذا التحسن يعود إلى تأثيرات العلاج الوهمي.

وما يثير القلق هو انه لم يتم إثبات صحة أهم مبدأ من مبادئ هذه النظرية بشكل مباشر.

وبعيدا عن العدد القليل من المصابين باكتئاب حاد، فإن معظم المرضى على ما يبدو، يمتلكون مستويات طبيعية من تلك النواقل العصبية في الدماغ. ومع ذلك فإن النتائج التي توصلت إليها شيلان لم تسهم في توضيح الأمور أكثر.

والتفسير المفضل بالنسبة لها ينبع من نظرية صاغها روبرت سابولسكي من جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا وبروس ماكوين من جامعة روكفيلير في نيويورك.

فخلال ثمانينات القرن الماضي، أشار هذان الخبيران إلى أن قرن آمون عند الحيوانات التي تتعرض للتوتر، يصاب بالانكماش. فعلى سبيل المثال، توفيت القرود التي كانت تخضع للقمع عن عمر مبكر مقارنة بأقرانها، كما تبين أن عدد خلايا قرن آمون في أدمغتها كان أقل بكثير.

وعلى ما يبدو أن خلايا متخصصة في الدماغ تقوم، استجابة للضغط النفسي، بتحرير شلال من الإشارات الهرمونية التي تحث غدد الأدرينالين على إنتاج الكورتيزول وهو أحد الستيرويدات القوية.

والواقع أن لهذه الظاهرة أهمية كبرى خصوصا إذا ما حدثت في حالات يطلق عليها العلماء الكر أو الفر، باعتبار أنها تستنفر الطاقة الاحتياطية للجسم.

ولكن وفقا لما يقول سابولسكي وماكوين، فإن التأثير التراكمي للكورتيزول مدمر للجسم والدماغ. فالكورتيزول يضر بالغصينات العصبية للخلية والتي من خلالها تستقبل عصبونات قرن آمون المعلومات الواردة من الخلايا الأخرى، فضلا عن انه قد يقتل بعض الخلايا العصبية بالكامل. وبما أن لقرن آمون السليم تأثيراً كبيراً في مسألة إفراز الكورتيزول، فإن تعرضه للأضرار يؤدي إلى إغلاق صمام مهم وتوقفه عن العمل معلنا بدء دورة فيزيولوجية خطيرة.

وكان معروفا جيدا أن مستويات الكورتيزول ترتفع عند الأشخاص المصابين بالاكتئاب، وعليه رأت شيلاين انه من المنطقي أن يعاني مرضاها المكتئبين من انكماش في قرن آمون على غرار ما حدث عند حيوانات الاختبار.

ولكن كيف لهذا العضو أن يفسر أسباب ظهور أعراض الاكتئاب؟

من المعروف أن ل قرن آمون وظائف مرتبطة بالتعلم والذاكرة، ورغم أن المكتئبين قد يعانون من مشاكل في الذاكرة إلا أنها لا تمثل الأعراض الرئيسية بالتأكيد. وهذا الجزء يرتبط بمناطق أخرى من الدماغ لها علاقة بالمزاج والمشاعر ولكن يبدو انه من الصعب الاقتناع بأن الأضرار التي تلحق بقرن آمون يمكن أن تسبب هذه المجموعة المتنوعة من الأعراض.

وعلى كل حال، لم يمض وقت طويل حتى كشفت الدراسات التي أجريت على موتى، الاختلافات التشريحية في أجزاء أخرى من أدمغة المكتئبين.

ففي القشرة الأمامية الجبهية التي يعتقد أنها تلعب دورا كبيرا في المشاعر السلبية ونماذج التفكير الاكتئابية الأخرى اكتشف الباحثون عصبونات صغيرة على نحو غير طبيعي، وعدداً قليلاً من الخلايا المساندة في الدماغ تسمى الخلايا الدبقية.

وفي الوقت ذاته، وجد الخبراء أن الجسم اللوزي المسؤول عن الإحساس بالخوف والقلق، متضخم عند العديد من المرضى.

وعلى الرغم من انه لم يتم التأكد بعد ما إذا كان الضغط النفسي مسؤولاً عن هذه التغيرات أيضا، إلا أنها قد تلعب دورا في توضيح نوعية الأعراض التي يعاني منها الناس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"