الجليد الساخن.. ماء فائق التأين مجمد بالليزر

لا يذوب إلا فوق 10 آلاف درجة
03:39 صباحا
قراءة 5 دقائق
إعداد: محمد هاني عطوي

تمكن الباحثون بالفعل من صنع الثلج الساخن، ويبدو الأمر ضرباً من الجنون، إنه ماء مجمد حتى آلاف عدة من الدرجات المئوية، وتسمى هذه الحالة «سوبرسونيك»، أي الماء فائق التأين والتي تكون فيها للمادة خصائص مذهلة لا تترك مجالاً للفيزيائيين كي يظلوا متجمدين أمامها.
ويشبه البعض هذا الأمر كما لو تم العثور على مكعبات من الثلج على سطح الشمس، لأنه بالفعل ثلج ساخن حقيقي، ولا يذوب طالما أن درجة الحرارة لم تتجاوز 10000 درجة مئوية، ربما تساورك الشكوك حول هذا الأمر، لكن تخيل فقط أن هذا الثلج الساخن الذي تتجاوز حرارته آلافاً عدة من الدرجات المئوية، لم يخرج من الثلاجة، بل استغرق الأمر لصنعه بالنسبة لفريق من الباحثين في مختبر لورنس ليفرمور في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، 4 سنوات من العمل، مع آلات متطورة للغاية، وإليكم الطريقة.
تمثلت الخطوة الأولى بضغط ماء نقي جداً باستخدام أداة تسمى «خلية سندان الماس»، هذا الجهاز يشبه المكبس ويمكن من خلاله إخضاع المادة لضغوط ودرجات حرارة عالية للغاية وإجراء العديد من القياسات الفيزيائية، علماً بأن طوله لا يزيد عن بضعة أعشار من المليمتر، وفيه يتم محاصرة المياه بين جدران من الماس غير قابلة للتشويه.
وتصل قوة الدفع فيه إلى 2.5 جيجا باسكال، أي أكبر من الضغط الجوي الأرضي ب 25000 مرة، وحينها يتحول الماء السائل عند 25 درجة مئوية إلى جليد.
والمعروف أن جزيئات الماء في درجة حرارة الغرفة، من النوع الذي يتململ بعضها إزاء بعض، وكأنها محقونة بالحرارة، ولذا يكون الماء سائلاً.
وعندما تصل درجة حرارة إلى صفر درجة مئوية تهدأ بما يكفي لتشكيل روابط أقوى فيما بينهما لتصبح في حالة تجمد وبالتالي يتولد لدينا الجليد. ولكن هذا صحيح فقط تحت ضغط «طبيعي» (الضغط الجوي عند مستوى سطح البحر).
ولو قمنا بتغيير الضغط، وكذلك درجة الحرارة، فإننا بذلك نغير من حالة الماء السائلة إلى الجليدية. فعلى سبيل المثال نجد أنه في خلية سندان الماس، يصل الضغط الذي يكبس جزيئات الماء إلى درجة تؤدي إلى تقارب جزيئات الماء لتشكيل الجليد، على الرغم من بقاء درجة الحرارة كما هي، ومع ذلك، يبقى هذا الجليد ذو طابع مبهم وليس ذلك الذي تعودنا على إضافته إلى العصائر لتبريدها. فالجزيئات ليست مرتبة بنفس الطريقة بالنسبة لبعضها البعض، بل هي أقرب إلى بعضها؛ بحيث إن مكعب هذا الثلج أكثر كثافة بنسبة 60% من مكعب الثلج العادي.
يقول الفيزيائيون إنه مع زيادة الضغط بمقدار 100 مرة، والتسخين إلى ما لا يقل عن 1700 درجة مئوية، فإننا نصل إلى حالة يظل فيها الجليد صلباً في درجات الحرارة القصوى فهذا الجليد، الموصوف ب«السوبرسونيك» أي فائق التأين، كان شيئا نظرياً بحتاً حتى تمكن فريق لورنس ليفرمور أخيراً من رؤيته فعلاً. لتحقيق ذلك، استخدم هؤلاء الليزر أو لنكون أكثر دقة، 6 مصادر من أشعة الليزر، قام الباحثون بحمل ثلج الماء النقي الذي تم حصره في خلية سندان الماس إلى مختبر ليزر الطاقة العالية بجامعة روتشستر، بنيويورك (الولايات المتحدة الأمريكية). هذا المكان يشبه إلى حد بعيد مختبر ليزر الميجاجول القريب من مدينة بوردو الفرنسية.
وتم وضع هذا الثلج وسط كرة يبلغ قطرها 3.3 متر، والهدف تكوين جليد مضغوط بين جدران من الماس بواسطة 6 مصادر من أشعة الليزر فوق البنفسجية.
استمر الحث فقط لنانو ثانية (جزء من مليار من الثانية)، لكن ذلك كان كافياً لتوفير قوة هائلة (1000 مليار واط) على إحدى الماسات. ونتج عن هذه القوة موجة صدمة عبرت الجليد، وضغطته بشكل يزيد 2 مليون مرة عن الضغط الجوي، إضافة إلى ضغطه، فإن الطاقة التي وفرها الليزر سخنت العينة بدرجة كبيرة، لتصل إلى أكثر من 1700 درجة مئوية.
وهكذا اجتمعت كل الشروط للحصول على جليد فائق التأين، والواقع أن التجربة لم تدم أكثر من 20 نانو ثانية تبخرت خلالها وبشكل فوري تقريباً وأثناء مرور موجة الصدمة، سندانات الألماس والجليد فائق التأين.
لم يكن لدى الباحثين سوى القليل من الوقت لمراقبة جليدهم الحارق، ومع ذلك كانوا قادرين على «رؤيته» باستخدام جهاز معقد يستخدم الليزر. كما استخدم الباحثون نوعاً من الكاميرات فائقة السرعة القادرة على التقاط صورة تبلغ 1000 بكسل كل 20 بيكو ثانية (البيكو ثانية هي 1000 من المليار من الثانية). إنه جهاز خارج عن المألوف، فبفضله، اكتشف الباحثون أحد أسرار الجليد فائق التأين المتمثلة في معرفة كيفية توصيله للكهرباء في هذه الحالة، ويمكننا تخيل هذا الأمر، كما لو أننا نقوم بتوصيل بطارية بمصباح كهربائي مع مكعبات الثلج بدلاً من الأسلاك النحاسية، ويبدأ المصباح في التألق.
فهل هذا أمر ممكن؟ في حالة المعدن، مثل النحاس، يمثل التيار الكهربائي بحركة الإلكترونات، وهي جسيمات مشحونة كهربائياً تدور حول نواة الذرات.
ولكن ماذا عن الأمر هنا؟ يحتوي جزيء الماء، (H2O) على 10 إلكترونات (واحد لكل ذرة هيدروجين، و 8 لذرة الأكسجين).
فهل تترك هذه الإكترونات ذراتها لتشكيل التيار؟ لا. والدليل، الذي وضحته التجربة، هو أن الجليد فائق التأين لا يلمع، والمواد التي تنقل بالكهرباء عن طريق تحريك الإلكترونات تعكس الضوء، مما يعطيها مظهراً لامعاً، مثل الحديد أو النحاس. لذلك، إذا كانت الإلكترونات هي التي تقود التيار في الجليد الفائق، فإن ضوء الليزر الشاهد يجب أن ينعكس، لكن ما حدث هو أنه تم امتصاصه، وبالتالي فإن الإلكترونات ليست في اللعبة.
قبل القيام بهذه التجربة، كان لدى الباحثين فكرة بسيطة حولها، فقد مر ما يقرب من 30 عاماً على دراسة الجليد فائق التأين نظرياً، باستخدام المحاكاة الحاسوبية، فماذا تقول هذه النماذج؟ الواقع أن التجربة، أثبتت أن هذا الجليد، في ظل هذه الظروف، لا يطلق إلكترونات، ولكن ببساطة ذرات الهيدروجين التي تشكل جزيء الماء. وبتعبير أدق، الهيدروجين المتحرر من إلكتروناته أي البروتون فقط، وهو الجسيم موجب الشحنة الذي يشكل النواة، هذه البروتونات هي في الواقع التي تتحرك.
وبما أن هناك الكثير من هذه الأنوية الذرية المشحونة «بأيونات» الهيدروجين، فقد استغلها الباحثون ليصفوا بها الجليد فائق التأين.

«وشاح» يطوق أورانوس ونبتون

يكشف الجليد الساخن لغزاً يقع على بعد 2.7 مليار كيلومتر من الأرض، وبالتحديد داخل كوكبي أورانوس ونبتون المكونين في المقام الأول من المياه (65٪ من كتلتيهما)؛ ونظراً لقطرهما «حوالي 51000 كيلومتر لأورانوس، و49000 كيلو متر لنبتون». يرى علماء الفيزياء أنه لو استطعنا الوصول إلى عمق يبلغ حوالي 8000 كيلومتر في غلافهما الجوي المكون من الغازات الكثيفة، فإننا سنعثر على ظروف من درجة الحرارة والضغط تسمح بتكون الجليد فائق التأين.
ولذا فإن الباحثين يعتقدون أن أورانوس ونبتون يمتلكان وشاحاً كبيراً ساكناً من الجليد فائق التأين مغطى بطبقة ذات ضغط من شأنه أن يجعلها أكثر ميوعة. هذا التركيب بالتحديد هو ما يفسر لنا المجال المغناطيسي الخاص للكوكبين. فهو لا يتكون من قطبين كما على الأرض، ولكن من أربعة أقطاب. ولمعرفة المزيد عن هذا الأمر، ينبغي تحسين التجربة التي أجراها الباحثون في ليفرمور بإضافة بعض «الشوائب» على الجليد. فالواقع، أن أورانوس ونبتون لا يتكونان من المياه النقية فقط؛ بل يحتويان على الأمونيا والميثان. أما عن كيفية تصرف الجليد فائق التأين عندما نضيف له هذه الشوائب، فإن التجارب المقبلة ستكشف لنا بالفعل عن ذلك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"