الحضارة الإنسانية تقترب من الفناء

سيناريوهات متعددة للانهيار المتوقع
13:05 مساء
قراءة 7 دقائق

الجدل مستمر منذ سنوات في الاوساط الفكرية والاكاديمية حول مدى استمرار الحضارة الانسانية الحالية وعمرها؟ وهل هي في طريقها إلى الزوال؟ وهل فناؤها أمر حتمي لا يمكن تفاديه؟ وكيف سيتم ذلك؟

ويتحدث التراث الثقافي والادبي من روايات وقصص وكذلك صناعة الافلام كثيرا عن نهاية الحضارة باشكال وصور مختلفة عن طريق الحروب والنزاعات أو المجاعات والجفاف ونقص الغذاء أو الكوارث الطبيعية أو الاوبئة التي قد يبتلى بها العالم ليفنى سكانه عن بكرة أبيهم أو ينجو القليل منهم ليعودوا إلى الحياة البدائية يبحثون عن الطعام أو بعض مقومات العيش واسباب الحياة الاساسية بين بقايا الاثار والحطام والركام.

يتساءل البعض: إن فناء الحضارات وانهيارها امر حتمي وطبيعي عبر التاريخ فلماذا تكون حضارتنا استثناء؟ولماذا تختلف عن غيرها من السابقات؟ وهل تشذ عن القاعدة؟ ويدور الحديث عن سيناريوهات أو اشكال لانهيار الحضارة أو دمارها من خلال ضربة ساحقة ماحقة مثل: كويكب أو نجم قادم من الفضاء البعيد ويخترق الغلاف الجوي للارض أو حرب نووية شاملة لا تبقي ولا تذر، وإما وباء يعم العالم ويقضي على ما فيه من بشر، وثمة احتمال آخر وهو أن الحضارة الراهنة مقدر لها وبشل حتمي لا مفر منه أن تختفي وتنهار عاجلا أو آجلا وان المسألة مجرد وقت.

ويناقش العلماء والباحثون منذ سنين نظرية تدور حول تطور المجتمعات ونموها وانه كلما زاد هذا التطور تعقيدا واتساعا لكثرة الانجازات في شتى المجالات، وكلما زاد تنوع تركيبها من اعراق وثقافات وجزئيات عديدة تصبح اكثر ضعفا وهشاشة حتى تبلغ مرحلة أو نقطة تنهار معها لدى حدوث أي اضطراب أو خلل بسيط قد يطيح بها.

ويرى بعضهم أننا بلغنا هذه المرحلة وانه حان الوقت لنبدأ التفكير في كيفية التعامل مع أي انهيار ومواجهته أو التعايش معه بينما يقول آخرون: إننا لم نصل إلى تلك النقطة أو المرحلة وان الوقت لا يزال مبكرا وانه يمكننا بل يجب علينا ان نباشر التحرك والعمل لتأجيل الكارثة وتأخيرها. ويقول جارد دايموند من جامعة كاليفورنيا في لوس انجلوس في كتابه الانهيار عام 2005 إن التاريخ لا يعمل ولا يسير لمصلحتنا ولننظر ما حدث لحضارات السومريين في العراق والفراعنة في مصر وحضارة المايا في امريكا الوسطى والكاريبي وامريكا الجنوبية والتي قال إن السبب الرئيسي لانهيارها سوء إدارة الموارد والظروف المحلية والبيئية والمعيشية ونبه إلى أن عالم اليوم يسير على طريق تلك الحضارات ما لم نحسم خيارنا بالعمل فورا على وقف تدمير بيئتنا ومقومات معيشتنا والانظمة والاجهزة المساندة لها.

وجادل ليستر براون من معهد سياسات الارض في واشنطن منذ وقت طويل بالقول إنه يتعين على حكومات الدول إبداء اهتمام اكبر بالمصادر والموارد الحيوية للبيئة ومقومات الحياة لأن الأمر لا يتعلق بانقاذ كوكب الارض بقدر ما يتعلق بانقاذ الحضارة.

ويعتقد فريق آخر أن مشكلاتنا أكثر عمقا مما نظن إذ يقول جوزيف تينتر عالم الاثار والحفريات في جامعة يوتاه في سولت ليك في كتابه عن انهيار تركيب وتشكيل المجتمعات البشرية عام 1998: إنه منذ أن بدأ أجدادنا وآباؤنا في بناء المدن كان يتعين علينا إيجاد الحلول للمشكلات التي تأتي مع النجاح والانجاز والتقدم وانه على مدى العشرة آلاف عام الماضية أدى حل هذه المشكلات إلى مزيد من التعقيدات والتوسعات في نمو المجتمعات وتركيبها وتشكيلها. فحينما تقل المحاصيل بسبب نقص الامطار يعمد البشر إلى بناء السدود والقنوات وحينما يكون الانتاج وفيرا ينمو المجتمع البشري ويزداد عدد سكانه ويتم بناء المزيد من القنوات والسدود ويتطلب الحفاظ عليها وإصلاحها إقامة إدارات ضخمة من الموظفين والعاملين لاغراض الصيانة وأخرى لجمع الضرائب والرسوم ثم يتم استحداث انظمة وأجهزة الضرائب وملفاتها حفاظا على الضبط والنظام والدقة.

ومعظم هذا عرفه وطبقه السومريون في حضارتهم. ولا بد من تكلفة أو ثمن لأي تقدم في تنظيم اي مجال مثل الطاقة أو تشييد المباني والقنوات والسدود أو التعليم ويتم توثيق كل الجهود الانسانية وكتابتها مما يزيد في تعقيد الحياة وتوسيع تركيبة المجتمع بأوجه حياته المتعددة والمتنوعة، على حد قول تينتر، الذي يضيف أنه مع استمرار النمو والتقدم يتم تحديد ابعاد كل مجال فكلما زاد الانتاج الغذائي فان ذلك يعني زيادة ساعات العمل الذي ادى إلى هذه الزيادة في الانتاج وزيادة عدد وحدات الطاقة التي تم استثمارها في كل هكتار من الارض بحيث يتم احتساب كل العناصر التي أدت إلى زيادة الانتاج على نحو دقيق مما يعني تنظيم وتقنين عملية الاستثمار وهو ما يحدث اليوم.

وحتى تحافظ على وتيرة نموها وتقدمها يجب على المجتمعات ان تواصل العمل لحل كل ما يظهر من مشكلات لأن معالجة كل مشكلة يعني المزيد من التوسع في المجتمعات العمرانية وتركيبها بتنوعه وتعقيداته، والنجاح يولد المزيد من النمو السكاني وظهور المزيد من المتخصصين والحرفيين وزيادة الحاجة إلى إدارة أكثر فاعلية للموارد والمصادر المتنامية والحاجة إلى توفير المزيد من المعلومات وتبادلها لضمان المرونة في شتى المجالات، كما يعتقد تينتر أننا بلغنا نقطة بداية الانهيار لان مجمل الطاقة وكل المصادر والموارد المتوفرة للمجتمع مطلوبة ومسخرة للحفاظ على الحد الادنى من تركيبته وتنوع تكوينه.

وإذا ما تعرضت الارض لتغييرات مناخية كارثية شاملة أو لغزو من مخلوقات أو اقوام همجية مجهولة فمن الطبيعي أن تنهار المؤسسات وما يجمعها من انظمة واجهزة مدنية كبيرة ليظهر مكانها مجتمع اقل تنوعا وتعقيدا واكثر بساطة.

ويذهب تينتر إلى الاعتقاد بأن الحضارات القديمة ومنها الصينية والاغريقية اعتمدت إلى حد كبير على الطاقة الطبيعية المستمدة من الفضاء والتي يمكن الحصول عليها من الغذاء والطعام والغابات وأخشاب أشجارها ومن الرياح وانه حينما تم استهلاك هذه المواد حتى نهايتها انهارات تلك الحضارات بشكل جزئي وتدريجي.

ونمت الحضارة الصناعية الغربية حتى بلغت حدا غير مسبوق من التقدم والتنوع في تركيب كل شيء وأظهرت نبوغا وتميزا في اكتشاف مصادر جديدة للطاقة والاستفادة منها كالفحم والنفط لكن هذه المصادر تبقى محدودة، وما زالت الحاجة قائمة للتوصل إلى طرق أكثر فاعلية للاستفادة بشكل افضل من كل وحدة للطاقة أو قطرة من نفط، وعلى الرغم من الاستمرار في نمو الانتاج العالمي من الغذاء إلا أن الحاجة قائمة لاختراعات واساليب جديدة ومبتكرة للتعاطي مع الظروف الحياتية والمعطيات المعيشية والبيئية المتنامية والتي تزداد حجما واتساعا وتعقيدا حيث ينبه تينتر إلى انه طالما بقي ظهور المشكلات أمرا حتميا لا مفر منه فان الحاجة إلى مثل هذه الامور وعملياتها ودوراتها ستبقى قائمة وحتمية ايضا ولا يمكن تفاديها.

ويؤيد يانير بار يام رئيس معهد نيوانجلاند كومبليكس سيستمز لانظمة تنوع المجتمعات وتركيبتها في كامبريدج في ولاية مساتشوسيتس في تحليل له ما ذهب اليه تينتر وقال إنه توصل إلى مجمل الافكار والنتائج التي توصل اليها صاحبه من خلال دراسته وتحليله العميقين للتاريخ، وأن المنظمات والهيئات الاجتماعية ازدادت نموا ونضجا وتقدما في تركيبها وتشكيلها وتنوعها بما يمكنها من التعامل مع المشكلات الحياتية والبيئية ومعالجتها وكذلك التعامل مع التحديات التي يمثلها نمو المجتمعات والدول المجاورة التي اصبحت بدورها أكثر تنوعا واوسع تركيبة مما ادى إلى تحولات اساسية وجذرية في نمو المجتمعات وتنظيمها وأن إدارة مجتمعات متقدمة ومتطورة تنظيميا تتطلب مديرين ومسؤولين على درجة لا تقل تقدما وقوة من حيث الكفاءة والمهارة في استيعاب آليات وأجهزة تطور هذه المجتمعات وانه لا بد من تسلسل هرمي ينظم هؤلاء المسؤولين والمديرين طبقا لمستويات معينة، مشيرا إلى أن التسلسل الهرمي يعني غالبا وجود شخص واحد على رأس هرم السلطة مما يعني ان الامور اصبحت اكثر صعوبة وهنا تفسح النظم الهرمية المجال أمام شبكات العمل أو القيادة الجماعية والتي تتميز بان عملية صنع واتخاذ القرارت فيها موضع جدل ونزاع في اغلب الاحيان، وهذا هو الواقع الراهن الذي تعيشه الحضارة الانسانية.

ويقول راي هاموند الباحث في المستقبليات والمستشار في المجال الصناعي: لا أتوقع انهيار المجتمع بسبب زيادة التنوع والتوسع في التركيبة وتعقيدات التقدم لان قوتنا تكمن في الجدل والنزاع حول عملية صنع القرار ويقصد بذلك المجتمعات الغربية التي يقول إنها أكثر مرونة من مجتمعات كالاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يعاني من مركزية شديدة في اتخاذ القرار رغم قيادته الجماعية.

ومن جانبه يقول توماس هومر ديكسون استاذ العلوم السياسية في جامعة تورنتو في كندا إن الاتصالات والتنوع يساعدان على تقدم الدول والمجتمعات فالقرية أو المدينة التي تعاني من نقص في المحاصيل أو الغذاء يمكنها الحصول عليهما من اخرى لديها انتاج أو فائض كبير، كما أن تقدم الاتصالات زاد من تطور المنظمات وشبكات العمل واجهزتها وانظمتها وآليات عملها وعزز التقارب والتنسيق والتعاون فيما بينها وهذا يعني أن آثار الفشل أو اضرار اي مشكلة تكون عامة على بلدين أو مجتمعين متقاربين أو معتمدين على بعضهما بعضاً وكلما زاد هذا الاعتماد التبادلي كانت معاناتهما أكبر من اية مشكلة فالتنوع في تركيب المجتمع يؤدي إلى ضعف أكبر على حد قول باريام في حين يشير هومر ديكسون إلى أن أزمة مالية عالمية أو انتشار وباء أو هجوم ارهابي يسبب آثارا سلبية واضرارا تعم العالم، وتزداد هذه الاضرار كلما كان الترابط أكبر بين الدول كما يحدث حينما تقع مشكلة عطل فني تؤدي إلى خلل أو انقطاع في امدادات التيار الكهربائي أو توقف مؤقت في خطوط الامداد التي يشملها الربط الكهربائي بين بلدين أو اكثر.

ويؤيد تشارلز برو من جامعة يال الامريكية وجهة النظر هذه ويقول إنه بفضل عولمة الاتصالات وتقدمها المذهل إذ وصلت أجهزة وآليات الانتاج العالمي نقطة يمكن القول معها إن أي ازمة في مكان ما يعني ازمة أو انهيارا في كل مكان ويتجلى هذا بوضوح تام في المجال المالي فالولايات المتحدة هي اللاعب الرئيسي في ازمة الديون الضخمة والمتنامية لكن آثار هذه الازمة عالمية وعامة.

ولا يبدي تينتر اقتناعا بأن التكنولوجيا الجديدة ستنقذ الحضارة على المدى البعيد ويقول إنه يميل إلى الاعتقاد بان الامر مرتبط لديه بمسألة الايمان والدين بينما يرى لويس بتنكورت من مختبر لوس الاموس الوطني في نيومكسيكو والذي أجرى دراسات عدة حول كيفية نمو المدن وتطورها أن المطلوب معدل كبير وغير مسبوق من التجديد والابتكار للحفاظ على استمرارية نمو المدن ومنع الانكماش أو الانهيار.

وإذا انهارت الحضارات الصناعية والتكنولوجية فإن المجتمعات الحضرية والسكانية والتي تعادل نصف سكان العالم ستصبح الاكثر ضعفا وسيخسر العالم الكثير من العلوم والمعارف التي تم تحقيقها والحصول عليها بصعوبة وبعد جهود كبيرة لكن المزارعين قد يكونون الاقل تضررا وسيكونون مع غيرهم من الهادئين الوادعين المتمتعين بالحلم الورثة الحقيقيين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"