الرقمنة في الذاكرة البشرية

أسرار المعلومات الذهنية
04:34 صباحا
قراءة 5 دقائق
إعداد: محمد هاني عطوي

توفر لنا الخلايا العصبية، المكون الأساسي للدماغ، كل شيء تقريباً في حياتنا من الناحية البيولوجية. أما عن المعلومات الذهنية التي يعالجها الدماغ، والتي ساهمت هذه الخلايا في تخزينها، فلا نعرف عنها شيئاً تقريباً. ووفقاً لأي شكل «مادي»، ولأي تنظيم داخلي، يخزن دماغنا الوجوه المألوفة لنا مثلاً، والقصائد المفضلة لنا، وأرقام الهواتف، وكيفية إعادة استرجاعها عند الطلب.
في كتاب «رياضيات بسيطة عن الدماغ»، الذي قدمه كلود بيرو، يمكننا أن نعثر على أول إجابة ملموسة ومتماسكة ومعقولة من الناحية البيولوجية، تتعلق بالطريقة التي تتفاعل بها الشبكة العصبية، وتتذكر من خلالها العناصر المعرفية. ونطالع في الكتاب ما يتعلق بنظرية تتداخل فيها تعابير علمية بحتة؛ مثل: الخلايا العصبية والرسوم البيانية، والكود «رموز تصحيح الخطأ» والأعمدة القشرية، و«الزمر العصبية» وعبارات مبهمة أخرى، تبحث في خوارزميات دماغنا البشري.
وتتعدد وجهات النظر التطويرية، التي توفرها هذه النظرية، ونموذج الذاكرة الدماغية الرقمية الكاملة التي تقود إليها، في علوم الأعصاب كما في مجال الذكاء الاصطناعي.
ويقدم كلود بيرو، الأستاذ في تيليكوم منطقة بريتاني بفرنسا، عرضاً عن الشبكات العصبية في القشرة الدماغية البشرية، ويناقش أيضاً غزارة الذاكرة، أو التقارب بين ذاكرة الدماغ والذاكرة الرقمية.
يأخذنا كلود برو، في رحلة لاكتشاف الشبكات العصبية وذاكرة الدماغ. ويشرح كيف أن القشرة الدماغية البشرية تعمل؛ لبناء ذاكرة محكمة وقوية. كحفظ وتخزين رقم الهاتف المحمول، وقصيدة الشعر، والأغنية أو جداول الضرب التي تعلمناها بشق الأنفس خلال طفولتنا، وهو ما نسميه «بالمعلومات العقلية البحتة»، أي كل ما قام به دماغنا، أثناء تعلمه الطويل، من حفظ وتخزين وترتيب للمعلومات في كل اتصالاته العصبية. ويشير بيرو إلى أن الغريب في المسألة هنا هو أن الأمر يتم بلا حركة، ولا عاطفة، ولا وعي. فمثلاً حفظ أن 9 ضرب 8 يعطي 72، هو أمر ميكانيكي وفوري. هذه المعلومة مثلاً يتم تخزينها بشكل دقيق في مكان ما في شبكتنا الدماغية العصبية، وكذلك الآلاف من الأسماء والوجوه وجميع أنواع عناصر المعرفة التي يستند عليها العقل.
وعلم الأعصاب الحسابي (فرع من علم الأعصاب يهتم بالنماذج الرياضية لعملية الإدراك وفي المقام الأول بنماذج المعلومات العقلية)، يبحث في هذا المجال وبشكل أكثر دقة في الحلول التي تقدمها نظريات الترابط والشبكات العصبية.

أنواع الشبكات العصبية

تصنف الشبكات العصبية بشكل عام وفق عائلتين رئيسيتين: النوع الأول هي الشبكات غير التراجعية، والتي لا يمكن أن تعود فيها الإشارة إلى العقدة العصبية، التي صدرت منها، حتى بعد التعديل بمعالجة لاحقة. وهنا نجد أن الاتصالات تكون بالضرورة أحادية الاتجاه، وتسمى بالأقواس (مصطلح مستعار من مفردات نظرية الرسم البياني). ويمكن القول إنه يتم وزن هذه الأقواس؛ لتدلنا على تكييف الشبكة مع المحفزات المستخدمة أثناء التعلم، وبالتالي فإن هذه الأوزان هي الناقلة للمعلومات المخزنة. والمثال المعروف الذي يستخدم في التعرف التلقائي إلى الحروف؛ هو الإدراك الحسي.
النوع الثاني يسمى بالشبكات التراجعية، أي التي تحتوي على دورات (مصطلح آخر مستعار من نظرية الرسم البياني)، والتي تسمح «بعودة الإشارة إلى المرسل». وينبغي علينا هنا التمعن في حالتين: فعندما يتم تحديد وزن الوصلات مسبقاً، كما هي الحال بالنسبة للشبكات غير التراجعية، فإن هذا الأمر هو الذي يحدد المعلومات؛ وعندما تكون كل الوصلة غير موزونة، فمعنى ذلك أنه يمكن أن توجد أو لا توجد، وهو ما يتم التعبير عنه في هذا النوع من الشبكات بالثنائية كما في الدوائر المنطقية الإلكترونية، وهنا يظهر لنا التشابه بين آلية عمل الدماغ وعلم الإلكترونيات. ويستند التياران الرئيسيان لعلم الأعصاب الحسابي على الرؤيتين التاليتين للمعلومات الذهنية: الأولى تتعلق بقوة الروابط «اللدونة التشابكية ذات الطبيعة التناظرية»، والثانية تتعلق بالنماذج الرسومية، الناتجة عن وجود أو عدم وجود اتصالات.

نموذج شانون ويفر

في أواخر الأربعينات من القرن العشرين، اقترح كلود شانون ووارن ويفر نموذجاً للاتصال الرقمي، وهو نموذج أثبت فاعليته منذ ذلك الحين في أنظمة الاتصالات الحديثة، وكذلك في أجهزة التخزين (الذاكرات الضخمة جداً).
تتمثل العملية الأولى في هذا النموذج في استخراج كمية البيانات المراد إرسالها أو حفظها والتي لا تبدو ذات صلة من وجهة نظر الاستغلال اللاحق لها. هذه العملية، تسمى «تشفير المصدر» أو «الضغط الرقمي»، وهي تهدف إلى إلغاء التكرار غير الضروري للمعلومات. ثم تتم إضافة ما يُسمى ب«التكرار الخفي» إلى الرسائل المضغوطة، والتي تسمح في حالة التغيير، بتصحيح الأخطاء أو محوها، حتى نقطة معينة. وتسمى العملية الثانية «تشفير القناة» أو «تشفير المصحح».
وبالنسبة للدماغ البشري أيضاً، تعد مسألة الشح والقوة من المسائل الرئيسية. فمن ناحية، لا يمتلك الدماغ أكثر من 20 واط في المتوسط؛ للاحتفاظ في القشرة الدماغية بجميع المعلومات الذهنية المخزنة، وإذا لزم الأمر، إيجادها بشكل صحيح. ويتم هذا بأداء مهام فسيولوجية أخرى؛ مثل: المحافظة على الوظائف الحيوية وغيرها الكثير، وهو ما توفره المناطق الزاحفة والطرفية في الدماغ؛ لذلك يجب أن تكون كمية المعلومات في القشرة الدماغية قليلة ومحدودة. من ناحية أخرى، يجب أن يتم حفظ العناصر المعرفية التي اعتبرها الدماغ مهمة للغاية بقوة؛ لمقاومة أي اعتداء كيميائي وفيزيائي يمكن أن يتعرض له بشكل مستمر؛ مثل: الشيخوخة الطبيعية.

الجزر المعرفية

العقدة العصبية ليست في الواقع خلية عصبية وحيدة؛ بل مجموعة من الخلايا العصبية «حوالي 100»، ويسميها علماء التشريح العصبي بالعمود الدقيق. وهي مجموعة غير متجانسة إلى حد ما من الخلايا العصبية المثيرة والمثبطة، القادرة على استقبال إشارات من «الطبقة المادية» وكذلك المهاد؛ لنقلها إلى مناطق أخرى من الدماغ، قريبة كانت أو بعيدة، أو العودة بها إلى مناطق تحت القشرة. والحقيقة أن هذه المجموعة غير المتجانسة المكونة من حوالي 100 خلية عصبية قادرة على نسج مئات الآلاف من الروابط الواردة والصادرة مع «الأعمدة الدقيقة» الأخرى. ويشكل تجمع الأعمدة الدقيقة عموداً قشرياً كبيراً، وتشكل الأعمدة القشرية المعاد تجميعها أعمدة كبيرة. ويحتوي فضاء المخ على بضعة آلاف من الأعمدة الكبيرة.
ويستدعي العنصر المعرفي الدائم (على سبيل المثال اسم شارع، مصحوباً بذاكرة مرئية لمنازل أو لمحال تجارية) عدداً من «الجزر المعرفية» التي ترتبط ببعضها؛ لتشكل «فكرة» وهذا ما تدعوه نظرية الرسوم البيانية ب«الزمرة»، وهي مجموعة فرعية من العقد العصبية المترابطة بشكل كامل.
ومن الناحية الحسابية «الرياضيات»، يمكن النظر إلى الزمرة كرمز «كود» متكرر. ومن الممكن التفكير في تحميل آلاف المليارات من الزمر المتراكبة؛ ولكن المحددة بمئات الملايين من العقدة «الأعمدة الدقيقة»، التي تبني القشرة الدماغية البشرية.
ويتم تحديد العناصر المعرفية المتراكمة في المخ من خلال وجود أو عدم وجود روابط، أي من خلال مصفوفة ثنائية تتطور مع تقدم عملية التعلم؛ وذلك عن طريق الإضافة أو التأكيد التدريجي للوصلات المرتبطة عبر مجموعة واسعة من المسارات المحتملة.

القشرة الدماغية «آلة للتعلم»

القشرة الدماغية هي قبل كل شيء «آلة تعليمية». فعناصر المعرفة والعمليات المعينة التي تخزنها بالمليارات، تتشكل من خلال النشاط المصاحب لمجموعات صغيرة من الخلايا العصبية، موزعة على بعض المناطق المخصصة للمادة الرمادية، التي تحمل قيماً فسيولوجية ودلالية محددة. ويتم إنشاء أو تعزيز الروابط بين الخلايا العصبية التي تنشط معاً «حسب قاعدة هب»؛ لتشكيل أنماط مترابطة للغاية ومتكررة وقوية.
وبعد تخزين الكثير من المعلومات، حتى على نطاق واسع خلال السنوات الأولى من وجودها، تستخدم القشرة الدماغية «قاعدة المراجع» التي تم تشكيلها لمحاولة «التفاعل بذكاء» مع متطلبات العالم الخارجي، وربما تصحيح مقاربات الرسائل الواردة من أجهزة الاستشعار الحسية المختلفة، أو تلك الواردة من النظام البصري.
ومثل المعلومات الذهنية التي تعتمد على عدد من المناطق المحددة في القشرة الدماغية، تتم عملية توزيع مسألة التكرار تلك. فهي ليست «مادة مضافة»؛ ولكنها ناتجة عن خصائص طبيعية موجودة في أي شبكة؛ عندما تكون متكررة تراجعية للغاية، وهذا هي الحال في القشرة الدماغية البشرية؛ لأن عملية التكرار ملازمة للمعلومات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"