العراق.. خروج مشروط من «الجمود»

04:08 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أحمد سيد أحمد*

بعد ولادة قيصرية، خرج العراق من حالة الجمود السياسي التي كان يعيش فيها منذ انتخابات مايو الماضي، ودخل في صراعات وجدل حول شرعية الانتخابات وصراع الكتل الانتخابية حول تشكيل الكتلة الأكبر في البرلمان والتي بدورها ستشكل الحكومة، وتزامن معها اندلاع الاحتجاجات الكبيرة في مدن العراق، وعلى رأسها البصرة، احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية وانعدام الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وتفشي البطالة.
وسط الأوضاع التي أدت لحالة من الشلل في العملية السياسية، استطاع البرلمان العراقي انتخاب رئيس الجمهورية الجديد، برهم صالح، والذي قام بدوره باختيار عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء، بعد أقل من ساعتين على انتخابه بالأغلبية الساحقة، حيث فاز ب219 صوتاً مقابل 22 لمنافسه فؤاد حسين مرشح الحزب الديمقراطي بزعامة مسعود برزاني. وقد أدت العوامل التي شهدها العراق وحالة الانسداد السياسي وتزايد غليان الشارع وصراع النخبة السياسية والكتل الانتخابية وتدخل المرجعيات الدينية وعلى رأسها علي السيستاني، إلى اختيار كل من برهم صالح وعادل عبد المهدي كحل وسط توافقي للخروج من حالة الجمود السياسي، حيث يمثل هذا التشكيل الجديد لقيادات العراق العديد من المزايا والمكتسبات.
أولها: أنه يؤدي إلى خروج العراق من الدوامة السياسية التي يعيشها منذ أشهر عديدة، ويسهم في تجنب حدوث فراغ سياسي على مستوى الرئاسات الثلاث، مما كان يهدد بانزلاق البلاد إلى حالة من الفوضى السياسية والأمنية وتقود العراق إلى مستقبل مجهول، خاصة في ظل اشتداد التنافس والصراع بين الكتلتين الأكبر في البرلمان، وهما كتلة الإصلاح والإعمار بقيادة مقتدى الصدر زعيم تكتل سائرون والفائز بأعلى الأصوات في البرلمان، ومعه تكتل النصر بقيادة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي من جهة، وبين كتلة البناء التي يقودها هادي العامري زعيم تكتل الفتح ونوري المالكي زعيم تكتل دولة القانون من جهة أخرى، وتزايد الجدل حول من يمتلك الكتلة الأكبر في البرلمان لتشكيل الحكومة، ووصل الأمر إلى المحكمة العليا للفصل في هذه المسألة، وعلى خلاف التقاليد السياسية في العراق منذ عام 2005 يتم اختيار رئيس الوزراء عبر آلية مختلفة من غير آلية الكتلة الأكبر، حيث يمثل رئيس الوزراء الجديد عادل عبد المهدي نموذج التكنوقراط المستقل، حيث لا ينتمي لأي من الكتلتين. وقد لعبت المرجعيات الدينية دوراً مهماً في الوصول إلى هذه الصيغة التوافقية والتي أكدت ضرورة اختيار أشخاص جدد من خارج النخبة التقليدية، على أساس قاعدة «المجرب لا يجرب»، كما قال المرجع الديني علي السيستاني، كما أن اختيار عبد المهدي حقق لمقتدى الصدر رغبته في أن تكون الحكومة الجديدة من التكنوقراط، وأن يكون دورها محاربة الفساد وتجاوز الطائفية. ولذلك فإن اختيار عادل عبد المهدي يمثل إلى حد ما تجاوزاً لصيغة المحاصصة الطائفية التي حكمت العراق لسنوات، حيث يعد عبد المهدي من التكنوقراط، ومن المتوقع أن يتم اختيار أعضاء حكومته من التكنوقراط، غير ملتزم باختيار الوزراء من الكتل السياسية، خاصة أن مقتدى الصدر أعلن عدم اشتراك أعضاء سائرون في تشكيل الحكومة إفساحاً للمجال أمام المهدي، لكي يختار الوزراء من التكنوقراط.
ثانيها: يمثل اختيار برهم صالح رئيساً للجمهورية خطوة مهمة في اتجاه تحقيق الاستقرار السياسي في العراق، لما يحظى به الرجل من توافق كبير من جانب الكتل السياسية في العراق، رغم اعتراض الحزب الديمقراطي الكردستاني وانسحابه من جلسة الانتخاب، كذلك التوافق من جانب القوى الإقليمية والدولية صاحبة النفوذ في العراق، وهو ما يمثّل عامل توازن في علاقات العراق الإقليمية والدولية، كما أن اختيار صالح وعبد المهدي ومحمد الحلبوسي، رئيس البرلمان، دعماً للتوجه العروبي للعراق وعودته إلى بيته العربي، وهو ما أكد عليه الحلبوسي أمام مؤتمر البرلمانات العربية في القاهرة.
إن اختيار هذه القيادات الثلاث يمثّل أفضل الصيغ الممكنة الآن للخروج بالعراق من مأزقه وإعادة ترتيب البيت العراقي وإعادة تشكيل الأولويات الملحّة في ظل وجود درجة عالية من التوافق الداخلي والخارجي على هذه القيادات، لكن يظل خروج العراق من حالة الجمود السياسي مشروطاً بعدد من العوامل والتحديات أبرزها:
أولاً: حالة التردي الكبير في الخدمات والأوضاع الاقتصادية التي يعيشها العراق، وأدت لاندلاع الاحتجاجات وغضب الشارع العراقي، ولذلك فإن الأولوية القصوى للحكومة الجديدة هي تحسين أوضاع الشعب العراقي وتحسين الخدمات الأساسية، خاصة مشكلات الكهرباء والمياه النظيفة، وكذلك مواجهة الفساد الذي استشرى في البلاد بشكل كبير وجعل العراق في مقدمة الدول صاحبة السجل الكبير في الفساد المالي والإداري، وهذه المعركة ستواجه بمقاومة من جانب النخبة التقليدية التي استفادت من الأوضاع العراقية لسنوات.
ثانياً: إن الخروج من الجمود السياسي مشروط ومرهون أيضاً بتحقيق المصالحة الوطنية العراقية وإعادة اللحمة مرة أخرى للنسيج المجتمعي ومعالجة الشروخ والتصدعات الكبيرة بين أبنائه وطوائفه، خاصة بين الشيعة والسنّة وبين العرب والأكراد في أعقاب استفتاء استقلال إقليم كردستان في سبتمبر 2017، ولذلك فإن التحدي الأكبر أمام الحكومة الجديدة، هو تحقيق التوافق مرة أخرى بين كل أبناء العراق من أجل العمل المشترك لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية في إطار الحفاظ على وحدة العراق واستقلاله، كذلك تحدي تقليل النفوذ الخارجي لبعض القوى الإقليمية والدولية التي تصارعت وتنافست على اختيار القيادة الحليفة لها.
ثالثاً: رغم أن اختيار التكنوقراط يمثل خطوة كبيرة في اتجاه الخروج على المحاصصة الطائفية، إلا أن عادل عبد المهدي لا يمتلك ظهيراً سياسياً حزبياً، كما في حالة رؤساء الوزراء السابقين الذين انتموا إلى حزب الدعوة الذي حكم البلاد منذ سنوات، ولأول مرة يفقد الحزب السلطة في العراق، لكن دعم الشارع العراقي وترتيب الأولويات ومحاربة الفساد، من شأنها أن تزيد من الدعم السياسي الشعبي للحكومة الجديدة في مواجهة ضغوط النخب السياسية التقليدية.
رابعاّ: الخروج من الجمود السياسي مرهون أيضاً بالتركيز على أولويات إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين والمهجرين، خاصة في المناطق السنيّة التي شهدت الحرب على تنظيم «داعش» الإرهابي، وتقوية المؤسسات الأمنية ومنع عودة تنظيم «داعش» مرة أخرى، كذلك هناك أولويات مثل تعديل الدستور وإصدار قانون جديد للانتخابات وتغيير هيكل العملية السياسية، لترتكز على المواطنة التي تساوي بين جميع العراقيين في الحقوق والواجبات، وليس على المحاصصة الطائفية المسؤولة عن كل مشكلات العراق السياسية والاقتصادية والأمنية.
ولذلك فإن اختيار برهم صالح وعادل عبد المهدي ومحمد الحلبوسي، يمثل خطوة مهمة في اتجاه تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في العراق، لكنها ليست كافية وتتطلب خطوات أخرى، وعلى رأسها تهيئة البيئة الاجتماعية والسياسية من أجل أن يتفرّغ العراق لتحقيق التنمية والازدهار وتوظيف موارده الاقتصادية والنفطية وتحسين أوضاع الشعب العراقي وتأكيد استقلالية القرار العراقي وعودته الكاملة إلى محيطه العربي، وكل هذا مرتبط بمدى إدراك النخبة السياسية التقليدية بحجم المخاطر المحدقة بالعراق، وبمدى الإنجازات التي ستحققها القيادات الجديدة في البلاد.

*خبير العلاقات الدولية في الأهرام

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"