الفلسفة في زمن ما بعد الحداثة (2/2)

رؤية نقدية
04:52 صباحا
قراءة 3 دقائق

لقد عَرفَ كانط الفلسفة قبل دولوز وغاتاري بوصفها تفكيرا بالمفاهيم؛ بيد أن هذين الأخيرين لم يقتصرا على تعريفها بالتحديد الكانطي السابق، بل بكونها تفكيرا بالمفاهيم وللمفاهيم! وينبغي أن نعي سبب قَصْرِهما لاشتغال الفيلسوف على الصناعة المفاهيمية. فاكتفاء التفلسف بصوغ مفاهيم من دون تقديم رؤى حول العالم، ومعنى للوجود وكينونة العيش هو بالضبط علامة على العجز عن فهم العالم والوجود، والإحساس بعدم القدرة على بلورة إجابة تستطيع إقناع العقل وطمأنة الشعور. فالمشروع ما بعد الحداثي، بخلخلة ثقة الفكر في إمكاناته الابستملوجية، خلص إلى تسطيح اهتماماته. لذا ليس غريبا أن نجد دولوز يحرص على تخليص التفلسف من الإيغال في التجريد للاكتفاء بالسطح الظاهر. أليس هو ذاك الذي وقف معجبا بقول فاليري الجلد هو الأكثر عمقا؟ ولم يكتف بوضع العبارة في سياقها الطبي، إذ عندما يقول بأنها ينبغي أن تُعَلقَ على أبواب كل أطباء الأمراض الجلدية لبالغ أهميتها؛ فإنه سرعان ما ينتقل إلى القول بأن الفلسفة هي بدورها نوع من الدرْمَاطُولُوجِيا العامة (علم الأمراض الجلدية) تنحصر وظيفتها في الاهتمام بالسطوح!!

إن قَصْرَ التفلسف على اشتغال في اللغة هو ديدن الكثير من الرؤى المشككة في قدرة العقل الفلسفي. فإذا كان دولوز بتشكيكه في استطاعة الفلسفة إنتاج معنى الوجود، لا يرى في غيرها من أنماط الفكر القدرة على أن تكون بديلا أفضل منها في تأدية هذه الوظيفة المستحيلة؛ فإن غيره كان يريد بقصر اشتغال الفيلسوف على اللغة يستهدف بيان وتوكيد عجز الأجهزة المنهجية التأملية التي تشتغل بها الفلسفة عن إنتاج المعنى والدلالة.

إذن ينبغي أن نعي أن مدلول الاشتغال على المفاهيم في الفكر الفلسفي المعاصر عادة ما يَرِدُ بناء على تصور يرى عجز اللوغوس عن الإنتاج، والاستعاضة عن الوظيفة الإنتاجية بالاشتغال بين دفتي المعجم.

إنها استقالة من وظيفة التفلسف! بل إعلان عن موت الفلسفة! تنطقها تقليعات ما بعد الحداثة إضمارا بعبارات أخرى كموت الايديلوجيا، وأفول السرديات الكبرى.

إنها صيرورة أزمة ترجع إلى إفلاس العقل الحداثي، أي ذلك العقل الأداتي الذي هيمن على الحضارة الغربية، وخلص بها إلى تشظي الحقيقة، واغتيال إمكانات الاعتقاد. وإن تطور ماهية الاشتغال الفلسفي في بناء الجهاز المفاهيمي من اللحظة السقراطية، أي من إنتاج الدلالات الماهوية، إلى الفكر ما بعد الحداثي، سواء مع الوضعية أم الدولوزية، أي إلى اشتغال في تشقيق الدلالة ونقد مدلولات الألفاظ، هو توكيد على عدم الثقة في العقل الفلسفي، واعتقاد بعدم قدرة إجرائياته المنهجية عن إنتاج دلالة الوجود. ومن ثم فهي ليست نقلة في تحديد وظيفة الفلسفة، بل نقد إمكان الحقيقة في الوضع ما بعد الحداثي.

ففلسفات ما بعد الحداثة باستنزالها اللوغوس، أو الكوجيتو من مقام منتج المعنى أو مصدر الحقيقة لم تُثمر سوى نزعة سوفسطائية أدخلت الكينونة الإنسانية في عالم العدمية واللامعنى! والزمن الوثوقي الذي يستدخل الحقيقة ويعلبها في إيديولوجيا محكمة، والزمن ما بعد الحداثي الذي يغتال مثال الحقيقة، ويلقي بالوعي في العراء، والعدمية كلاهما مدمر للنفس الإنسانية. صحيح أن الزمن الثقافي ما بعد الحداثي يبدو ثريا في حراك إنتاجه المعرفي، حتى إن إيقاع تتالي الأفكار يتسارع على نحو حثيث، فكلما ظهرت تقليعة معرفية إلا وتلاها ما ينقضها وينفيها. لكن من الخطأ الظن بأن هذا الإيقاع دال على ثراء التفكير، بل هو في تقديري يدل على قلق التفكير لا ثرائه. فشدة الحراك المعرفي، بأفول أفكار وانبجاس أخرى، ليس دليل ثراء بقدر ما هو نتاج ارتعاد بعد فقدان دثار اليقين!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"