المؤلف اللامرئي

03:44 صباحا
قراءة 5 دقائق
محمد إسماعيل زاهر

(1)

قبل عقد أو اثنين كان عدد دور النشر العربية أقل بكثير من الموجود حالياً، وكان القارئ المتابع، يعرف من أين يحصل على الرواية الجيدة أو الديوان الشعري الجديد أو الكتاب الفكري الذي يثير شغفه ويحرك خياله، بل وحتى يعرف دار النشر التي سيجد عندها كتاب نادر سمع به أو آخر ممنوع قرأ عنه، كانت هناك دور نشر شهيرة ومعروفة وذات تاريخ طويل في هذا المجال أو ذاك، الآن تغيرت الصورة تماماً، وأصبحنا نشعر أن دور النشر لم تعد معنية إلاّ بإصدار أكبر كمّ من الكتب، بغض النظر عن أي اشتراطات أخرى كان البعض يأخذ بها في الاعتبار.
لم تعد هناك إلاّ في ما ندر، تلك الدار المتخصصة في حقل معرفي واحد، حتى تلك الدور المعروفة بكتبها الفلسفية أو الفكرية، أصبحت تسارع إلى نشر الرواية، فإذا لم تجد الروائي العربي، ذهبت إلى الترجمة، فإذا لم تعثر على رواية جديدة تستحق الترجمة، انكبت على إعادة ترجمة الروايات العالمية الشهيرة، أو قامت بسرقتها، والحالات أكثر من أن تحصى، منذ سنوات قليلة كان المتابع يصادف الأدب الروسي تقريباً ربما في أكثر من عشر دور نشر، ولحق به الأدب اللاتيني، أما رواية 1948 لأورويل على سبيل المثال، فبإمكاننا أن نحصي سبع ترجمات مختلفة لها. الروائي النمساوي ستيفان زيفايج دخل القائمة بدوره وكأننا اكتشفناه فجأة، ففي معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة صادفت ثلاثة دور نشر تضع ترجماته في الواجهة، وكل دار تصرّ على أن ترجمتها هي الأجمل والأكثر اكتمالاً، مع أن رواياته ترجمت في خمسينات وستينات القرن الماضي بأقلام لها اسمها مثل يحيى حقي وحلمي مراد.
الرصد السابق يأتي في مرحلة التجول والمشاهدة، فماذا عن المرحلة اللاحقة، أعني مرحلة الاقتناء والقراءة، هناك سلسلة بديعة وجديدة تحت عنوان «مختصر تاريخ»، صدر منها، سبعة أجزاء: «مختصر تاريخ الدين»، «مختصر تاريخ الفلسفة»، الاقتصاد، الأدب، العلم، الاركيولوجيا واللغة، كتبها متخصصون في تلك الحقول، أسلوبها سهل ممتنع، ومكتوبة لتثقيف القارئ العادي، ويقع كل كتاب منها في أربعين فصلاً يغطي مختلف مراحل هذا الحقل المعرفي أو ذاك، وصادرة في إخراج أنيق، وورق جيد، وعليك وأنت تستمتع بقراءة تلك الكتب أن تغض النظر عن أزمة النشر العربي التاريخية والمتمثلة في غياب أي نبذة تعريفية عن السلسلة، وعلى من شاء معرفة خلفية هذه السلسلة أو الهدف منها الذهاب إلى الإنترنت، ولكن المشكلة التي ستصادفك أنه من دون أي مبالغة، لا تخلو صفحة من أي جزء في هذه السلسلة من خطأ طباعي أو إملائي أو نحوي.. أخطاء في أسماء الأعلام والأماكن والمصطلحات. وكأن دار النشر بعد أن «اشترت» حقوق تلك الكتب، ودفعت لمترجمين لهم وزنهم، لم تهتم بتدقيق الكتاب، أو قراءته قبل إصداره.
هذه مجرد جزئية بسيطة داخل حالة النشر المثقلة بالمشاكل والهموم، ولكنها تصب في المجرى العام لوضع الكتاب في العالم العربي، وكأن الهدف هو مجرد النشر وحسب، من دون أي اعتبارات ثقافية تتعلق بالمناخ العام أو حتى تحترم القارئ.

(2)

هل تمتلك أي دور نشر، باستثناء الحكومية، خطة ما؟، وهل توجد هناك تلك اللجان التي تختار الكتاب وتقرأه وتجيزه للنشر؟، وهل يوجد قارئ دار النشر الذي يتميز بثقافة موسوعية تمكنه من الحكم الصائب على هذا الكتاب أو ذاك؟، بحيث يقول عن ثقة هذا كتاب يستحق النشر، وهل يتمتع ذلك القارئ بخبرة يستطيع من خلالها أن يوجه الكاتب إلى تعديلات أو إضافات تصقل عمله في مرحلة الإعداد للنشر؟.
عاش روجيه جرينييه لمدة قرن (1917-2017)، قضى منه خمسة عقود في العمل كقارئ لدار نشر جاليمار الفرنسية الشهيرة، صادق سارتر وألبير كامو، في مؤلفه «قصر الكتب»، سنجد أنفسنا أمام قارئ يأكل الكتب بالمعنى الحرفي، يخبرنا في أحد فصول الكتاب أنه ترأس لجنة مرّ عليها في بعض الأعوام 10 آلاف مخطوطة لكتّاب يسعون إلى نشر مؤلفاتهم، في فقرات كثيرة من الكتاب تتعدد أسماء المؤلفين والإحالات إلى الروايات أو الدواوين أو الكتب الفلسفية، وفي أجزاء عديدة من الكتاب ربما تصاب بالتعب من كثرة العودة إلى الهوامش لتعرف أصل الأساطير والحكايات والمرويات التي يتحدث عنها جرينييه، كتابة دسمة يتناول من خلالها مفاصل أدبية جمالية يمزج فيها بين قلم الكاتب وعين الناقد وخبرة عملية مباشرة من خلال احتكاكه بنخبة من مثقفي فرنسا لعقود طويلة، ولكنْ وراء كل هذا قارئ كوني لا حدود لاطّلاعه أو لقراءاته أو معرفته بخفايا وآليات عملية النشر كحالة يتجاور داخلها المجتمعي بالثقافي بالاقتصادي بالسياسي، لم يفلت جرينييه من إغراء الكتابة، كتب في القصة والنقد والفكر، ولكنه احتفظ دوماً بروح قارئ الظل، أو القارئ الخبير بما يدور في سوق النشر. ربما لا يوجد مقابل عربي لجرينييه، ولكن بؤس النشر في الحالة العربية يتجاوز مسألة وجود أو غياب قارئ موسوعي في هذه الدار أو تلك.

(3)

النشر ليس تلك الحالة التي لا هدف منها إلا إصدار الكتاب، فلا يوجد أي إنجاز من وراء امتلاك دار للنشر، ربما الربح فقط، أو التباهي في الأوساط الثقافية بعدد الكتاب التي أصدرتها في حالة الخسارة.
النشر حالة ثقافية متكاملة، بمعنى أن الكتاب في مرحلته الأخيرة، وبعد أن يكون بين يدي القارئ، لابد أن يكون في حد ذاته وجبة ثقافية دسمة، هل توجد دار نشر عربية واحدة تكتب بطاقة تعريفية متكاملة عن أي كتاب مترجم؟: تاريخ نشره للمرة الأولى، عدد اللغات التي ترجم لها.. هل هناك ترجمات عربية سابقة له أم لا؟، لماذا أقدمت الدار على ترجمة العمل مرة أخرى؟. هل توجد تلك المقدمات الوافية لأي كتاب مهم أثار ضجة؟، هل تقدم أي دار نشر عربية نبذة حقيقية عن أي كتاب جديد، أو أي نقد جادّ يبشر بكاتب واعد، باستثناء تلك الكلمات البائسة والخادعة التي تزين بعض الأغلفة وكتبها بعض أصدقاء المؤلف مجاملة له.
يفترض في الكتاب بعد صدوره أن يكتفي بذاته، فالقارئ يذهب إلى مصادر أخرى أشار إليها المؤلف ليؤسس لذلك الحوار الفكري الذي يدور بين الاثنين حول النص المكتوب، أما أن يذهب القارئ لمصادر ثانية ليتعرف على معلومات أولية تتعلق بالكاتب أو عمله، فتلك من إشكاليات النشر في الحالة العربية.
ليس المهم أن ننشر، ولكن الأكثر أهمية هو أن يؤمن كل ناشر أو قارئ دار نشر، أنه بمثابة المؤلف الموازي لصاحب الكتاب، المؤلف اللامرئي الذي يقدم من خلال ببليوجرافيا دسمة، إضافة ثقافية نوعية إلى الساحة الثقافية التي يعمل فيها.

مفارقة

تشهد الساحة الثقافية العربية في السنوات الأخيرة ملامح عدة لحراك نشري لافت، فالمتجول في أي محل لبيع الكتب سيصادفه ذلك الكمّ الملحوظ من دور النشر الجديدة، بل ربما دفعه تعدد تلك الدور وتوالي إصداراتها إلى السؤال: أين هي أزمة القراءة في العالم العربي؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"