باريس.. «خطوة خطوة» باتجاه موسكو

04:03 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. نورهان الشيخ *

إن انعقاد الدورة الثانية عشرة لمجلس التعاون الأمني الروسي الفرنسي بصيغة (2+2) التي تضم وزيري الدفاع والخارجية في البلدين في 9 سبتمبر بموسكو، عقب انقطاع دام سبع سنوات، ومن قبلها قمة الرئيسين إمانويل ماكرون وفلاديمير بوتين في 19 أغسطس بقلعة بريجانسون، المقر الرئاسي الصيفي جنوبي فرنسا، يمثل نقطة تحول مهمة في العلاقات الروسية الفرنسية، قد تكون مقدمة لتحولات جوهرية في السياسة الأوروبية تجاه موسكو نحو مزيد من الدفء والتعاون.
تؤكد تصريحات الرئيس ماكرون نهجاً جديداً في السياسة الفرنسية تجاه روسيا، فخلال استقباله نظيره الروسي فلاديمير بوتين، أشار إلى أنه «يؤمن بامتداد أوروبا من لشبونة البرتغالية وحتى فلاديفوستوك الروسية»، وأنه «يجب ألا ننسى أن روسيا في أوروبا»، مؤكداً بذلك أن روسيا جزء من أوروبا ومعنية بالأمن والاستقرار الأوروبي. وخلال كلمته السنوية أمام الدبلوماسيين الفرنسيين يوم 27 أغسطس، أشار ماكرون إلى أهمية «تطوير الحوار مع روسيا»، وأن العالم يمر بنهاية عصر «الهيمنة الغربية»، وأن النظام الدولي يتغير بصورة غير مسبوقة، وأن التغيرات تجري في جميع المجالات بوتيرة تاريخية وازدياد دور الدول الكبرى الأخرى وخاصة الصين، وتحدث عن بناء هندسة جديدة للثقة والأمن في أوروبا وهو ما اعتبره غير ممكن دون إعادة النظر في العلاقات مع روسيا. كذلك وصف وزير خارجيته، جان إيف لو دريان، روسيا بالدولة الأوروبية «تاريخياً وجغرافياً»، وأن «روسيا مكانها في أوروبا»، وأن «باريس لا تتعطش إلى إضعاف روسيا، إنما تسعى إلى الوصول إلى الاحترام والتعاون» معها.
يكمن وراء التغير في الموقف الفرنسي من روسيا عدة عوامل يتعلق البعض منها بالتراجع في العلاقات الفرنسية الأمريكية، وأن واشنطن في ظل قيادة ترامب وتحت شعار «أمريكا أولًا» لم تعد منشغلة كثيرًا بقضايا الأمن الأوروبي ولا توليها الأولوية كما كان الحال من قبل، ولم تُبدِ الدعم المتوقع للرئاسة الفرنسية في مواجهة احتجاجات السترات الصفراء التي تهز باريس. الأمر الذي دفع ماكرون للحديث عن تكوين «جيش أوروبي» واتباع سياسة أكثر استقلالًا عن واشنطن حتى إن البعض شبهه بديجول وتوجهه شرقًا.
هذا فضلًا عن التوتر الحادث بين البلدين على خلفية الضريبة الرقمية التي أقرتها فرنسا في يوليو الماضي بقيمة 3% على الخدمات التي تقدمها الشركات الأمريكية عبر الإنترنت، رغم التحذير الأمريكي من اتخاذ إجراءات مضادة.
الأمر الذي يطرح التساؤل حول مدى التغيير الذي يطمح إليه ماكرون، وهل في ظل الوضع الأوروبي الراهن الذي يعاني حالة من الغموض والارتباك، نظراً للمرحلة الانتقالية التي تمر بها ألمانيا استعداداً لفترة ما بعد ميركل، وانشغال لندن بقضية البريكست، ستستطيع فرنسا قيادة أوروبا نحو إعادة إطلاق العلاقات مع موسكو.
من الواضح أن النهج الفرنسي تدرّجي ويميل إلى التحرك «خطوة خطوة»، كما أشار ماكرون، وقد نجحت القمة الروسية الفرنسية واجتماع (2+2) في بلورة مجموعة من التفاهمات أبرزها تلك المتعلقة بإنشاء «هيكل أمني أوروبي جديد»، وذلك بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى (INF
)، والتي كانت أوروبا المعني الأساسي بها، حيث بحث وزيرا الدفاع في البلدين تداعيات انهيار المعاهدة وعدم وضوح مستقبل معاهدة «ستارت3»، واتفقا على اتخاذ إجراءات جوابية لضمان الأمن الأوروبي ومنع اندلاع سباق صواريخ في أوروبا. وكذلك وضع آلية لمنع الصدام عند حدود التماس بين روسيا وحلف شمال الأطلسي لقرب قوات الطرفين في البر والجو والبحر وفي الفضاء والمجال السيبراني، على حد قول وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورنس بارلي، بهدف تجنب الحوادث وسوء التفاهم وفق مبدأ الأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة. وكانت قضية القمر الاصطناعي الروسي «لوش أولامب» الذي حاول في عام 2017 الاقتراب من القمر الاصطناعي العسكري الفرنسي الإيطالي «أثينا فيدوس» قد أثار توترًا بين البلدين.
أما فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية، فقد كان التفاهم أوضح ما يكون حول الاتفاق النووي الإيراني، وأكد الجانبان ضرورة تضافر جهود جميع الأطراف المعنية لإنقاذ الاتفاق، وبحث وزيرا الدفاع خلال لقائهما ما يسمى «الشراكة الممكنة» بين البلدين في ملفات أمن الخليج والشرق الأوسط.
إلا أن التباين في المواقف استمر جزئياً حول سوريا وأوكرانيا، فرغم اتفاق البلدين على تنسيق الجهود لمحاربة الإرهابيين المتبقين في سوريا ومنع تسللهم إلى شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، إضافة إلى حل القضايا الإنسانية، مثل الإسهام في عودة اللاجئين، وكذلك إطلاق العملية السياسية على أساس تشكيل اللجنة الدستورية، إلا أن الخلاف بينهما حول إدلب مازال قائماً، حيث تؤكد روسيا دعمها للجيش السوري وعملياته ضد الإرهابيين في إدلب، في حين دعا ماكرون للتقيد بالهدنة هناك وبدا أكثر قرباً من الموقف التركي.
ورغم الانفراج النسبي في الملف الأوكراني حيث استضافت باريس عملية تبادل المعتقلين بين روسيا وأوكرانيا في 7 سبتمبر، وتم الاتفاق على استئناف العمل «بمجموعة نورماندي» التي تضم روسيا وفرنسا وألمانيا وأوكرانيا، وأنه لا بديل عن اتفاقيات مينسك كأساس لتسوية هذه الأزمة. إلا أن فرنسا مازالت عالقة في الموقف الأوروبي العام من الأزمة ولا يمكنها إنهاء العقوبات المفروضة على روسيا، التي اعتبرها ماكرون خاطئة ولا تخدم مصالح روسيا وأوروبا. ورغم إشارة ماكرون، في 21 أغسطس، إلى أنه «من المهم أن تنضم روسيا مجدداً» إلى مجموعة السبع، التي أقصيت منها عام 2014، إلا أنه جعل إيجاد حل للأزمة الأوكرانية شرطاً مسبقاً لعودة روسيا.
يضاف إلى ما سبق بوادر تنافس في إفريقيا تلوح في الأفق بين الطرفين، حيث أشار ماكرون في كلمته أمام السفراء إلى أن «روسيا في طريق عودتها إلى إفريقيا، وليس هذا من مصلحتنا»، مؤكداً المكانة البارزة التي خصصتها فرنسا للقارة الإفريقية في استراتيجيتها الجديدة. ومن المعروف أن القمة الروسية الإفريقية الأولى من نوعها ستعقد في سوتشي يومي 23 و24 أكتوبر المقبل وستركز على التعاون الاقتصادي والتقني بين الجانبين.
إن التحديات الأمنية التي تواجه موسكو وباريس تدفعهما للتعاون من أجل ضمان الأمن والاستقرار الأوروبي، ويشكل هذا بداية لتطور تدريجي نحو مزيد من التفاهمات الروسية - الفرنسية حول القضايا الأخرى محل الخلاف بينهما.

* أكاديمية وكاتبة مصرية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"