بهاء طاهر: الكتابة وجود في مقابل العدم

يشعر برعب شديد أمام الكلمة والنشر
02:41 صباحا
قراءة 8 دقائق

يعتبر بهاء طاهر أحد أهم الروائيين العرب، وقد نحت لنفسه مسارا خاصا به منذ أعماله الأولى، واحتل موقعه بفضل عدة أعمال قصصية مثل الخطوبة ،1972 وبالأمس حلمت بك ،1984 وأنا الملك جئت ،1985 وذهبت إلى شلال ،1998 وكذلك بفضل أعمال روائية مثل شرق النخيل ،1985 وقالت ضحى ،1985 وخالتي صفية والدير ،1991 ونقطة النور ،2001 وفاز طاهر بالجائزة العالمية للرواية التي تقدمها أبوظبي إلى الأدب العربي، وذلك عن روايته واحة الغروب.

التقت الخليج بالروائي بهاء طاهر وكان الحوار التالي:

كيف تقبلت حصولك على الجائزة العالمية للرواية العربية خصوصا أنه أثير الكثير من الجدل حولها؟

- الجائزة العالمية للرواية العربية، تحذو حذو جائزة البوكر من حيث النظام ولجنة التحكيم وإخفاء أسماء هذه اللجنة حتى النهاية، وهي تتوافر على قدر كبير من الحياد والشفافية والموضوعية، وينتهي الأمر دائما إلى أن تقدم لجنة التحكيم مبرراتها للأعمال الفائزة، وقد أشرت في سؤالك إلى كثير من الجدل، وكان الأجدر أن يكون هناك الكثير من الترحيب، لأن هذه الجائزة تعتبر إضافة جديدة للثقافة العربية والأولى أن ندعمها لا أن نطعن فيها.

قلت في أحد حواراتك إن الجوائز لا يمكن أن تحدث انقلابا في واقع مريض، فهل يعني هذا عدم اطمئنان للجوائز، أم عدم ثقة ويأس من هذا الواقع؟

- هو ليس يأساً من هذا الواقع المريض، ولكنه تشخيص له، أول سؤال لك كان حول الطعن في هذه الجائزة ومصداقيتها بدل التساؤل عن أهمية الجائزة وإضافتها في الثقافة العربية، أوليس هذا دليلاً كبيراً على هذا الواقع المريض؟ فالنهش في ذات الآخرين ظاهرة لابد من التوقف عندها والبحث عن مخرج لها وإلا ستكون كل علاقاتنا صدامية، وتؤدي إلى الانتحار الجماعي، أنا لا أفهم ما الذي يحدث في الساحة الثقافية ولكن أتمنى أن يتغير الوضع، والمسألة حسب رأيي لا ترتبط بعدم الاطمئنان للجوائز بقدر ارتباطها بظاهرة النهش المتبادل والصراعات التي تتسم بها الحياة الثقافية بلا أدنى مبرر لذلك.

ولكن أليست مهمة النخبة المثقفة هي النهوض بهذا الواقع المريض وتغييره؟ أم أن هذه الوظيفة اندثرت أو همشت في ظل انقلاب المفاهيم؟

- هي لم تهمش ولا تزال موجودة، ولكن للأسف الشديد الصوت الأعلى هو للتيارات السلبية، ومع ذلك فالتيارات الايجابية التي تسعى إلى إرساء قيم الخير والجمال والحق هي التي ستنتصر في النهاية.

المرض الذي ينبغي معالجته اليوم والشفاء منه هو هذه التيارات السلبية المتمثلة في الصراعات والجدل العقيم، وهنا تأتي مهمة المثقف التي لم تندثر ولا تزال كل المجتمعات تتطلع إلى هذا الدور الرائد الذي يلعبه المثقف القادر على الاسهام في تصويب مسار هذا المجتمع واغنائه بإعلاء قيم الحق والخير والجمال في حياتنا رغم التحديات الكثيرة التي تواجهه.

إلقاء المسؤولية على الآخرين وعلى السلطة أمر سهل، ولكن ماذا فعل المثقفون لمواجهة هذه التحديات؟ ألا ترى معي أنهم استقالوا من دورهم؟

- لا تنس أن المثقف اعزل أمام السلطة ولا يستطيع أن يواجهها إذا ما كانت تحول بينه وبين أداء دوره، السلطة أقوى من الكاتب، ينبغي أن نعترف بهذه الحقيقة ونسلم بها، وهذا لا يمنع الكتّاب في أي وقت من الأوقات من أن يكونوا ندًا لهذه السلطة ومقاومة سعيها للبطش بالفكر والثقافة ويتصدون لكل تحدياتها من اجل إعلاء دور الكلمة والثقافة. وفي اعتقادي لم يستقل المثقف ولم يتخل عن دوره، بل هو يعبر عن موقفه ويدافع عنه، وكثيرا ما يدفع الثمن غاليا.

تراجع دور المثقف فما الأسباب العميقة لهذا التراجع وهذه القطيعة؟

- هذا القول فيه بعض الصحة ولكن لا يجب اعتماده كقاعدة عامة، أنا شخصيا ضد مفاهيم ما بعد الحداثة، وعدة مفاهيم أخرى إذا ما طبقت تحدث قطيعة بين الكاتب والقارئ، وأنا أيضا ضد تعالي الكاتب على جمهوره وأطالبه بأن يسعى إلى تقريب وجهة نظره وأن يحدث التواصل المطلوب بينه وبين قرائه الذين يجب عليهم هم أيضا أن يبذلوا هذا المجهود، لأنني لا أريد أن أكرر ما قاله أبو تمام حين قيل له لم لا تقول ما يفهم؟، فقال ولم لا تفهم ما يقال ولكنني أريد أن أؤكد على أن هناك حدا أدنى من المجهود ينبغي أن يبذله القارئ للتواصل مع المبدع، هذا الجهد للأسف لم يعد موجودا، وهذا ليس عيب الجمهور ولكنه عيب نظامنا التعليمي ومؤسساتنا الإعلامية التي لا تسعى بأي شكل من الأشكال لإحداث التواصل بين المبدع وجمهوره.

والكاتب.. أليس طرفا في هذه القطيعة؟

- إذا كان يسعى عن عمد إلى الإغراب والاغتراب عن جمهوره، فهو طرف.

هذا يجرنا إلى التساؤل عن عدد القراء في الوطن العربي، خاصة أن الطاهر بن جلون صرح مرة بأن قراء الأدب الحقيقيين في الوطن العربي لا يتجاوزون الألف؟

- في الحقيقة نسبة القراء مقارنة بعدد سكان الوطن العربي نسبة مخجلة فعلا، ومقارنة أيضا بجمهور الكرة والمطربين الشعبيين، ولكن هناك عودة الآن كما يقول الناشرون، والعهدة عليهم، وهناك إقبال على القراءة غير مسبوق، وهذا ما أكده لي الناشرون في معرض القاهرة الدولي للكتاب، والشيء نفسه بالنسبة لمعرض أبوظبي للكتاب. أما ما تعليل هذه الظاهرة؟! فربما الجمهور ملّ الكرة.

هل يصل الكاتب في بعض الأحيان إلى الشك في جدوى الكتابة أصلاً؟

- أعتقد أن ما نعيشه اليوم فيه نوع ربما ليس من عزوف الكاتب عن جمهوره، ولكنه نوع من اليأس في جدوى هذا التواصل، وأعتقد أن الكثير من كتابنا العرب يعانون من هذا الإحباط الذي ينتابهم في أحيان كثيرة، فيمكن أن تتصور أن أية حرفة تحقق لصاحبها حدا أدنى من الحياة الكريمة إلا حرفة الكتابة، الكاتب إذا لم يكن له عمل آخر يعيش منه فإنه لا يستطيع أن يواصل الكتابة، وهذا ينطبق على أشهر كتابنا حتى إن أستاذنا نجيب محفوظ الكاتب المعروف ظل إلى سن الستين موظفاً حكومياً.

وبالنسبة لي فأنا لم أفترض يوما ولم أفكر بأنني يمكن أن أعيش من الكتابة، ولكنني من الناحية المعنوية لم أفقد إيماني مطلقا بهذه الجدوى، وأواصل العمل وأنا مقتنع تمام الاقتناع بأن للكتابة الدور المهم والثقافة الدور الأكبر في المجتمع.

هل تكتب على مقاس الجمهور وحسب ذوقه أم لرغبة في ذاتك؟

- الكاتب الذي يكتب لإرضاء الجمهور تندثر كتابته فور الانتهاء منها، لأن الكاتب يجب أن يتوجه إلى هدف أسمى وهو إفادة الجمهور بدلا من إرضائه، لأن الكتابة ليست للترفيه والإمتاع، وتاريخ الأدب مملوء بأمثلة كثيرة كالذين اندثروا، من يحترم نفسه ويحترم القارئ يكتب لتبليغ أهداف نبيلة ترتقي بمرتبة الإنسان إلى الأعلى.

هل هذا الاحترام للقارئ هو الذي جعلك مقلا في كتاباتك؟

- هناك أسباب عدة من ضمنها أنني ابتعدت لفترة من حياتي عن الكتابة لظروف لا مجال لذكرها الآن، وبقيت 8 سنوات لم أنشر كتابا، وبالإضافة إلى ذلك أنا من النوع المدقق جدا في عمله وأرفض أن أكتب تجربة أكثر من مرة وهو ما يفعله الكثير من الكتّاب للأسف، أشعر برعب وتهيب شديد أمام الكلمة وأمام النشر.

هل مازالت الكتابة بالنسبة إليك رسالة في وجه اليأس والإحباط؟

- بالطبع، الكتابة رسالة ضد الفناء وينبغي أن تظل كذلك.. الكتابة هي خلق في مقابل الفناء، ووجود في مقابل العدم.

الانطلاق من قصة واقعية حقيقية في رواية واحة الغروب والاتكاء على التاريخ لتصوير الواقع المعيش الراهن، ألا يعتبر نوعا من المجازفة والمغامرة المحفوفة بالمخاطر؟

- لقد درست الواقع التاريخي جيداً، ولم أتكئ عليه، ولكنني كنت مهموماً بالواقع الراهن أكثر من اهتمامي بالماضي البعيد، وإذا كانت الرواية قد نجحت في أن تنقل للقارئ من خلال تلك الواقعة التاريخية هموما معاصرة وباقية، فقد أدت دورها.. والقصة الحقيقية تقول إن هناك حاكماً لواحة سيوة في نهاية القرن التاسع عشر دمر معبداً مصرياً قديماً ليستعمل الحجارة في بناء سلم لداره ولقسم الشرطة الذي يرأسه، ولكنني لم أقتنع بهذا التفسير على الإطلاق وقلت إنه لابد من دوافع أخرى، فكانت هذه الرواية.

وجود قضايا مهمة عدة في الرواية تحيلنا إلى الراهن اليومي، هل هو إيمان من بهاء طاهر بأن الرواية وصف للواقع بكل تناقضاته وعدم تزييفه؟

- كل رواية في واقع الأمر يجب أن تتضمن وتتناول قضايا وموضوعات عديدة، والرواية التي تقتصر على دافع وهدف واحد تكون رواية فقيرة، وحضور الواقع في الرواية بكل تناقضاته أمر بديهي.

إلى أي مدى تعتبر كتاباتك تعبيرا عن المثقف الثائر والحائر؟

- لا يستطيع أي كاتب أن يصنف نفسه، من يصنف الكاتب هم القراء، فإذا كانوا يرونني كاتبا غير تقليدي فإن هذا التقييم يسعدني للغاية.

ما مدى تأثير تجربة الغربة التي عشتها في أوروبا في كتاباتك، هل اكتشفت بعض الأسئلة هناك؟

- هذا طبيعي للغاية، الكتابة مرتبطة تماما بالبيئة وبالحياة التي نعيشها، أنا لم أكن أنوي أن أهاجر ولكن الظروف أجبرتني، طبعاً الأسئلة تتغير مع تغير البيئة المحيطة وفي البيئة الغربية عالم مختلف وموضوعات جديدة.

برأيك.. لكي يكتشف الإنسان ذاته والمكان الذي يعيش فيه، هل لابد أن يبتعد عنه قليلاً؟

- هذا صحيح إلى أبعد الحدود، وقد قال أبو حيان التوحيدي الغريب ليس من فارق الدار ولكن الغريب من كان غريبا في الدار.. وواقع الأمر يشير إلى أن العلاقة بالمكان تتوقف على إحساسك بالانتماء أو بالغربة عن هذا المكان.

هل تغيرت أسئلة الكتابة لديك منذ المجموعة القصصية الأولى الخطوبة؟

- بطبيعة الحال تغيرت لأن الإنسان الذي لا يتغير ولا يتطور هو إنسان غير طبيعي ومتكلس، من فترة البدايات حتى اللحظة الراهنة اختلفت الموضوعات واختلفت الرؤى والمفاهيم التي أعالجها في رواياتي.

تحول بعض إبداعاتك إلى أعمال درامية إلى أي مدى تخدم هذه الأعمال الدرامية العمل الأدبي؟

- أعتقد أنها تفيد الأعمال الأدبية فائدة كبيرة بسبب الظاهرة المؤسفة التي نعيشها وهي ظاهرة أمية المتعلمين الذين لا يقرؤون، وربما يتوقف الأمر على من يقوم بمعالجة هذه الأعمال دراميا سواء للتلفزيون أو للسينما ومدى قدرته على استلهام الأفكار الأساسية في العمل الذي يعالجه.

هل أنت مع الرأي الذي يقول إن الرواية أصبحت ديوان العرب؟

- لا أوافق على هذا الرأي مطلقا، وقد كنت مرة في ندوة مع د.جابر عصفور بعنوان زمن الرواية وقلت إن هذا الحكم لو صدق لكان خبرا سيئا بالنسبة للرواية، لأن الفنون تنهض معا وتنحدر معا، فإذا قلنا إن الشعر في أزمة فلابد أن تكون الرواية في أزمة، ولحسن الحظ أن هذا غير حقيقي، مازال الشعر هو ديوان العرب ومزدهرا بوجود قامات شعرية كبيرة.

تشير دائماً إلى غياب دور المؤسسة النقدية في تعريف القارئ بالأدب الجيد؟

- أنا شديد الإيمان والاقتناع بهذا الغياب.. النقد يتنصل من دوره الأساسي كوسيط بين المبدع والجمهور ولأسباب كثيرة لا أستطيع أن أحددها الآن ولكن أستطيع أن أراها وأرى أن غياب دور النقد قد أحدث أثراً سلبياً، ودفع الجمهور للبحث عن بدائل للنقد الذي اعتدنا عليه.

أنت من جيل لم يستطع التنصل من السؤال السياسي في جل كتاباته؟

- صحيح أنا وكتّاب جيلي انخرطنا في السؤال وشخصياً أنا مع هذا السؤال بشرط ألا يكون حائلا دون تحقيق الأدب لأهدافه وتخليه عن الجانب الإبداعي الفني المهم في كل عملية كتابة، وحسب رأيي فقد نجحنا أنا وجيلي في تجاوز هذه العقبة.

الثقافة والحرية

المثقف ليس فقط ندًا للسلطة، ولكنه مرشد وموجه لها وحتى إن كانت ترفض توجيهه وإرشاده، فعليه أن يواصل أداء هذا الدور مهما كانت التضحيات، فلابد للمثقف أن يكون قدوة في مجتمعه، ولي كتاب اعتز به كثيرا اسمه الثقافة والحرية تحدثت فيه عن كفاح المثقفين المصريين منذ رفاعة الطهطاوي حتى طه حسين وسعيهم للتقدم بالمجتمع وتطويره من خلال الدعوات للحداثة والتعليم والعدل والتنوير.

الكم والكيف

هناك مشاريع عديدة ومراكز ترجمة كثيرة، ولكن عندما ترى حصيلة هذا كله تندهش، لا أتحدث عن الكم.. ربما يكون الكم كثيرا ولكن الكيف ليس في المستوى المطلوب، وهنا دائما أضرب مثالا بمشروع طه حسين للألف كتاب، فقد اختار عناوين الألف كتاب من عيون الكتب ذات الأولوية للترجمة، وعهد بهذه المهمة إلى مترجمين أكفاء، هذا ليس متوفرا الآن في المشاريع الهائلة التي يزخر بها الوطن العربي، فأغلب الترجمات سيئة وإذا كانت الترجمة جيدة فاختيار الكتاب ليس على قدر من الأهمية.. هذه بعض الأسباب التي تحول دون أن تؤدي الترجمة دورها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"