تأملات في سورة مريم ... غواية الشياطين

01:03 صباحا
قراءة 7 دقائق
قال تعالى: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (مريم 83).عشنا في المقالة السابقة مع الآيات الكريمة التي تحدثت عن عبّاد الأصنام، وعن حالهم مع آلهتهم يوم القيامة حيث تتبرأ منهم تلك الآلهة وتنقلب عليهم، وتكون ضداً عليهم بأن تكون سبباً في عذابهم وخلودهم في النار، ووقودا لها لتحرق اجسادهم، والآية هنا تذكر حال المشركين مع شياطينهم في الدنيا، فإنهم يكونون لها تبعاً، وينقادون لاغوائها، وتدفعهم شياطينهم دفعاً الى المعاصي والشهوات، لأنها مسلطة عليهم، مأذون لها في اغوائهم. قال تعالى: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا والاستفهام في الآية لتقرير الرؤية وتحقيقها - وهذا هو الغرض الأصلي من الاستفهام. ولتعجيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عنادهم وتمردهم واستهزائهم بالدين، ومن احوالهم من حيث كونها من آثار اغواء الشياطين كما يدل عليه قوله تعالى: تؤزهم أزا.وليس المقصود بالتعجيب هنا تعجيبه صلى الله عليه وسلم من إرسال الشياطين على الكافرين بل من آثار اغواء الشياطين للكافرين.تسلط شيطانيوالمراد بالرؤية هنا الرؤية العلمية من خلال الآيات التي نزلت تنبئ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بضلالات الذين كفروا ومعاداتهم للحق، وليس المقصود بها الرؤية البصرية. والمخاطب هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمراد بإرسال الشياطين على الكافرين تسليطهم عليهم بالاغواء، وذلك حين أذن سبحانه لابليس بالوسوسة ابتلاء لعباده في قوله سبحانه: واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (الاسراء:64) وهذا المعنى أي التسليط من قولهم: ارسلت فلانا على فلان. أي سلطته عليه لإرادة ان يستولي عليه، ويؤيد هذا المعنى أيضاً قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرجل أراد ان يصيد بكلبه: سم الله وأرسل كلبك أي سلطه على المصيد (رواه مسلم) وقيل إن معنى الارسال في الآية: التخلية بين الشياطين والكافرين، كما يقال: ارسلت البعير أي خليته، والمعنى: خلينا الشياطين وإياهم ولم نعصمهم من القبول منهم والانقياد لهم، ومكنا الشياطين من اضلالهم.وقد يقول قائل: إذا كان الله تعالى هو الذي أذن أو سلط الشياطين على الكافرين أو مكن الشياطين منهم فلم يحاسبهم؟ ولم يجازيهم - سبحانه - وهم مسلوبو الارادة لا يملكون دفعاً لاغواء الشياطين لهم ولا رداً؟ وهذا اعتقاد طائفة من الفرق الضالة المنتسبة الى الاسلام تسمى الجبرية، وهم يقولون: إن العباد مجبرون على أفعالهم لا اختيار لهم فيها، فالانسان في فكرهم مسير لا مخير، وهم يرون ان ضلال الكفار من قبله تعالى بأن خلق فيهم الكفر. وتلك قضية عقدية كبرى احتدم حولها الجدل قديماً، فمن قائل إن الانسان مخير، ومن قائل إنه مجبر، ومن قائل إنه مجبر في بعض الأمور، ومخير في بعضها الآخر، وليس هنا مجال تفصيلها، وإنما اكتفي في هذا المقال بالاشارة الموجزة الى أن اغواء الشياطين للانسان ليس مقصوراً على الكفار فقط، بل إن جميع بني آدم - باستثناء الرسل والانبياء الكرام - معرضون لوسوسة ابليس واعوانه، ولكن تبقى مجاهدة الشياطين والتغلب على اغوائهم ووسوستهم وتزيينهم الباطل هي الفيصل بين الانسان الصالح والانسان الطالح، فمن يخرج من تلك المعركة منتصراً على شيطانه فهو الفائز، ومن يستسلم لشيطانه ويتبعه وينقاد له فهو الخاسر، ومما يؤيد هذا قوله تعالى حكاية عن ابليس - عليه اللعنة -: قال رب فأنظرني الى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لاغوينهم اجمعين إلا عبادك منهم المخلصين. قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم اجمعين. (ص 79-85). واقرأ هذه المحاورة بين الله تعالى وبين ابليس اللعين: قال رب بما اغويتني لازينن لهم في الأرض ولأغوينهم اجمعين إلا عبادك منهم المخلصين. قال هذا صراط علي مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين، وان جهنم لموعدهم اجمعين (الحجر: 39-43). وأذهب بك أبعد من هذا ألم يتغلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قرينه حتى اسلم قرينه كما ورد في الصحيح؟تشديد المحنةإذن تستطيع ان تقول: إن تلك التخلية بين الكفار والشياطين أو تسليط الشياطين على الكفار من باب تشديد المحنة عليهم، تلك المحنة التي يتعرض لها جل بني آدم، إلا أنها وإن كانت محنة شديدة على الكفار فإن بإمكانهم ألا يقبلوا من الشياطين، ويكون ثوابهم على ترك القبول اعظم إن آمنوا، والله عز وجل وصف كيد الشيطان بأنه ضعيف، قال تعالى: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً (النساء: 76) والشيطان يقر بذلك ويتبرأ من اتباعه يوم القيامة كما حكى القرآن الكريم عنه وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم. وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.. (ابراهيم: 22).وكم من كفار كانوا من ألد أعداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام تغلبوا على شياطينهم وأهوائهم فصاروا من اشد المدافعين عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة، ومن أكثر الحامين لحياض الدين الحنيف.إن الله تعالى لم يكتب الكفر على أحد من خلقه بدليل قوله سبحانه: وهديناه النجدين (البلد: 10) فهو سبحانه بين للانسان طريق الخير وطريق الشر، وارسل رسله الكرام وانبياءه عليهم السلام لهداية البشر، وترك لهم حرية الاختيار، من أجل ذلك خلق الجنة والنار، وجعل الثواب والعقاب.ونضيف أيضاً: أنه سبحانه علم ازلاً بأهل الجنة وبأهل النار وبمن سيؤمن ومن سيكفر من عباده فأوجب الجنة لأهل طاعته والنار لأهل معصيته، وهذا من باب العدل المطلق والله تعالى يخاطب أهل الكفر بقوله: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما (النساء: 147).والخلاصة في الاجابة والرد على أصحاب هذا الادعاء أن الله تعالى لما علم ازلاً بموت هؤلاء على الكفر - أو بعض منهم - سلط عليهم الشياطين ليزدادوا غياً وتمرداً وكفراً وعيصاناً فيزداد عقابهم، ويشتد حسابهم. وأما من كتب الله تعالى له الايمان منهم، والتغلب على وسوسة واغواءات تلك الشياطين فإنه يجزل له العطاء، ويبدل سيئاته حسنات، والإسلام يجب ما قبله، قال تعالى: إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً (الفرقان 70) أقول: إن هذا الاستطراد كان لازماً، لأن ما ذكرته من تساؤل هو من الشبهات الكثيرة التي يثيرها الملاحدة واعداء الاسلام، ولذا كان واجبا التنويه والاشارة. والله اعلم.رسوخ في الكفروالآن عد معي ثانية الى قول ربك: إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فقد أكد هذا الخبر بأن واسمية الجملة، لتقرير ارساله - سبحانه - الشياطين على الكافرين، وأنه واقع فعلاً كما اخبر الله تعالى عنه. وعدي الفعل (ارسل) بحرف الاستعلاء على، للدلالة على سيطرة الشياطين وتمكنهم من غواية الكفار واضلالهم، وتزيين الباطل في عيونهم، وأيضاً لما كان هذا الارسال سبب الهلاك فقد عدي الفعل ب على الذي يوحي بالثقل والتبعة. والتعبير عن أهل الكفر باسم الفاعل الكافرين فيه اشارة الى رسوخهم في الكفر وعراقتهم فيه. ونُزل ارسال الشياطين على الكافرين لاتضاح آثاره منزلة الشيء المرئي المشاهد وقوله تعالى تؤزهم أزاً أي تغريهم اغراء شديداً، وتهيجهم تهييجاً شديداً لارتكاب المعاصي، وتزين لهم الكفر تزيينا. و(الاز) هو الهز والتهييج والتحريك الشديد، وأصله الحركة والغليان، ومن شواهده ما ورد في الخبر عن صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إلى الصلاة ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء أي شبه صوت جوفه - صلى الله عليه وسلم - بصوت القدر المغلي وقولهم: ائتزت القدر ائتزازاً أي اشتد غليانها، والمقصود بالأز في الآية بجانب ما ذكرناه الاستفزاز الباطني. وشبه اضطراب اعتقاد الكفار، وتباين اقوالهم، واختلاق اكاذيبهم بالغليان في صعود وانخفاض وفرقعة وسكون، لأن الماء اذا غلى تبخر وتبدد، وكذلك الكفار يعيشون في قلق واضطراب، وهذه استعارة مكنية، من تشبيه المعنوي بالمحسوس المرئي المشاهد تهويلاً له وتنفيراً منه.ترنح واهتزازوكلمة أز من الكلمات الواصفة الكاشفة، فإنك - بجانب ما ذكرته - تكاد تسمع صوت حركة ترنح المشركين وتخبطهم واهتزازهم وجنوحهم الشديد نحو الكفر والمعاصي بسبب تسليط الشياطين عليهم، وهذا كله صوره وأسمعه لنا تشديد الزاي.ومادة أزز يغلب استعمالها في المعاني المتباينة التي لا يجمع بينها، ولا تؤلف، وينبو عنها الطبع، ولذا كان استعارة الأز في الآية الكريمة لبيان شدة تأثير الشياطين في أوليائهم دقيقاً ورائعاً.وأوثر التعبير بالفعل المضارع تؤزهم للدلالة على استمرار تسليط الشياطين على الكافرين واغوائهم وتهييجهم، وتجدد هذا في كل وقت، وهذا المعنى دل عليه المضارع، والسياق. وجملة تؤزهم وقعت حالاً مقيداً للإرسال، لأن الشياطين مرسلة على جميع الناس، ولكن الله يحفظ المؤمنين من كيد الشياطين على حسب قوة الايمان وصلاح العمل، قال تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين. ويمكن ان تكون جملة تؤزهم استئنافاً بيانياً وقع جواباً عن سؤال تقديره: ماذا تفعل الشياطين بهم؟ فقيل: تؤزهم أزا.وأكد الفعل (تؤزهم) بالمصدر ايماء الى شدة تأثير الشياطين في الكافرين. عرفت الآن ان الشياطين مرسلة على بني آدم إلا أن سلطانهم لا يكون إلا على أهل الكفر والنفاق والمعاصي، واعوانهم، وأنه يسلم من تأثيرها واغوائها من حسن ايمانه وتوكله على ربه كما قال تعالى في حق ابليس - عليه لعنة الله - إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (النحل:99-100) نسأل الله أن يحفظنا من وساوس الشيطان، ومن نزعات النفس، ومن جنوح الهوى إنه سميع مجيب.الفائزون والخاسرونإن اغواء الشياطين للانسان ليس مقصوراً على الكفار فقط، بل إن جميع بني آدم - باستثناء الرسل والأنبياء الكرام - معرضون لوسوسة ابليس وأعوانه، ولكن تبقى مجاهدة الشياطين والتغلب على اغوائهم ووسوستهم وتزيينهم الباطل هي الفيصل بين الانسان الصالح والانسان الطالح، فمن يخرج من تلك المعركة منتصراً على شيطانه فهو الفائز، ومن يستسلم لشيطانه ويتبعه وينقاد له فهو الخاسر، ومما يؤيد هذا قوله تعالى حكاية عن ابليس - عليه اللعنة -: قال رب فأنظرني الى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لاغوينهم اجمعين إلا عبادك منهم المخلصين. قال فالحق والحق اقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (ص: 79-85)[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"