حفظاً للذاكرة الجماعية

01:30 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. يوسف الحسن *

سؤال التراث الثقافي،‮ ‬في‮ ‬أية ثقافة أو مجتمع إنساني‮ ‬هو سؤال الصلة التي‮ ‬تربط حاضر الثقافة أو المجتمع بماضيها،‮ ‬سواء كانت هذه الصلة واقعية‮/ ‬تاريخية أو حتى متوهمة‮.‬
المجتمعات التي تعيش إشكاليات التقدم، هي أكثر المجتمعات عناية بتراثها، تعيد قراءته، والتفكير فيه، عساها تعثر في خبرته التاريخية عن أجوبة ناجزة، أو تجد فيه خامات قابلة لتصبح أجوبة عن مشكلات الحاضر.
البعض يطرح عليه أردية من التقديس، رغم أنه من صناعة البشر، والبعض الآخر يعيد قراءته في ضوء مصالح معينة، أيديولوجية أو سياسية، لكن هناك أيضاً من يفتش عن التراث الثقافي، عندما يحس بالخوف على الهوية، من التهميش أو التلاشي.
نحن كأمة عربية، نتنفس التاريخ، نشعر باستمرارية هذا التاريخ، ونستند إلى تراث ثقافي عريق، مثل غيرنا من المجتمعات كالصين والهند.
تكثف الشعور بالتراث في وعينا الجمعي، وبخاصة منذ بدايات القرن التاسع عشر، لأسباب عديدة:
الاستعمار/ غزوات أجنبية/ بداية تحلل الخلافة العثمانية/ صدمة الحداثة/ الاستشراق/ سياسات التتريك.. الخ. إلى درجة أن ما كتب عن التراث الثقافي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، يعادل كمياً ما كتب عنه، ما بين القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر الميلادي.
في بدايات القرن التاسع عشر، لم تكن أشهر نصوص التراث الثقافي، معروفة لدى النخب العربية، الكثير منه كان مفقوداً عند هذه النخب، بعضه كان معلوماً بعنوانه، وكان معظم المتوفر، كتب الشروح والحواشي والمختصرات، والتي عاشت عليها أجيال من العلماء على مدى خمسة أو ستة قرون.
كان للمستشرقين الألمان والفرنسيين والهولنديين، دور مهم في أن نتعرف على تراث ابن هشام، المسعودي، ياقوت الحموي، ابن خلدون، ابن النديم، ابن رشد، وابن حزم وغيرهم.
الدراسة العلمية للتراث أخذت تشهد اندفاعه قوية، عامل آخر ساعد على ذلك، هو تطور الصحافة وانتشارها، ونشأة الجامعة الوطنية في بعض الدول العربية، بدأت تعطي مساحة لقضايا التراث الثقافي (مجلة الهلال - جامعة فؤاد الأول..الخ)، كما بدأت «إرادة الاستقلال» تحفز على دراسة التراث الثقافي العربي.
وأطل سؤال التراث، في صيغة المقارنة بين أحوالنا في حاضرنا، وأحوال غيرنا في محيطهم، (مؤلفات رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده).. وظهر أن حاضر أوروبا جذاب (محمد عبده في زيارته إلى فرنسا يقول بعد عودته إلى القاهرة وجدت هناك إسلاماً من دون مسلمين، وهنا وجدت مسلمين من دون إسلام).
في بدايات القرن ال20، انطلق البحث في التراث على الأصول العلمية (جورجي زيدان، فرح أنطون)، ومن مدخل (الأدب/ اللغة/ الرواية)، وبدء الانشغال بالحضارة والهوية على وقع صدمة الحداثة وتبعاتها، وهنا أخذ سؤال الماضي التراثي يتكون في الوعي العربي.
واتخذ الطلب على التراث صورتين متباينتين: 1- النظر إلى التراث وكأنه ملاذ الوعي، وهو المرجع والمعيار، 2- ومحاولة البحث عن مشتركات بين التراث (الأصالة) وبين المعاصر.
اليوم، خطاب الأصالة، تعاظمت فرصه، ليس عن طريق البحث والدراسات النقدية، كما كان في القرنين الماضيين، حينما ظهرت الحركة الإصلاحية التراثية في الوعي العربي، وعملت على إعادة الاعتبار إلى التراث، نشراً وتحقيقاً ودراسة.
التونسي ،محمد عبده، جورجي زيدان، أحمد أمين، طه حسين، ومحمد حسنين هيكل.
التراث، كائن صامت، والناس هم الذين يخرجونه من صمته، أو ينطقون به، أو ينطقونه المهم، أن لا ننظر إلى التراث، كحالة متخفية للزينة والتفاخر، أو نمتشقه أو نتوسله كسلاح أيديولوجي، في صراعات الحاضر ،وإنما العمل نحو تجهيز الوعي الجمعي بذاكرة ثقافية، تشعر العربي، بأن تراثه حي وأنه جزء من وعيه، يتوارثه جيلاً بعد جيل.
ويعيد إبداعه، وتطويره بشكل مستمر، يوثقه ويحميه، ويبرزه، ويساعده على الحوار والتفاهم مع ثقافات أخرى، ويشجعه على الاحترام المتبادل، ويسهم في تماسكه الاجتماعي ويحفز الشعور بالانتماء.
خطاب التراث الثقافي اليوم، تتعاظم الفرص أمامه للتعريف به وتعزيز الوعي الجمعي به وحمايته من التهديد والتهميش، وذلك من خلال استخدام منتجات ثورة المعلومات والاتصال وآلياتها الشبكية والرقمية.
نشير هنا إلى أهمية النشر الإلكتروني للمفردات الرئيسية للتراث الثقافي، من أفكار وفلسفات وتقاليد وجماليات، وأنماط معيشة وملاحم وفنون حرفية تقليدية، وكافة أشكال الثقافة الشعبية، من أغان وحواديت وأمثال.. الخ،
لكننا نحتاج إلى عمل مؤسسي وطني وقومي، لتوثيق هذا التراث وإحيائه في التعليم والدراما والصحافة التقليدية والجديدة.
ونحتاج إلى رقمنة التراث، أي تحويله إلى شكل رقمي أو إلكتروني، وأن يكون متاحاً عبر الشبكة، مما يسهل الوصول إليه، وتخزين أشكال مختلفة لمصادر التراث، واسترجاع سريع ودقيق للمعلومات. إضافة إلى إمكانات حفظ التراث وتعزيز الوعي به لدى الأجيال الناشئة، من خلال (الصحافة الإلكترونية) النخبوية منها، والشعبية والتي تتصف بسرعة المتابعة، وسرعة تحديث المعلومة وحدوث تفاعل مباشر، بين القارئ والكاتب أو المبدع وهي أيضاً وسيلة عابرة للحدود وتوفر فرصاً واسعة وميسرة للمبدع.
لكن هناك تحديات تواجه هذه الآلية:
- المعايير الدقيقة للنشر، إضافة إلى تشريعات تنظمها.
- ندرة الباحث التراثي الإلكتروني.
- من غير اعتراف كل مجتمع عربي بتراثه القطري، لا يمكن لأحد غيره أن يقرر أن هذا هو جزء من التراث.
وأطرح عدة تساؤلات وملاحظات حول الثقافة التراثية الشعبية والأدب الشعبي، الذي نادراً ما يسلط الإعلام الضوء عليه وعلى مبدعيه، ومدى الحاجة إلى تحويل ألعابنا الشعبية إلى ألعاب إلكترونية، وتحويل حكايات شعبية إلى أفلام كرتونية، يرتبط بها أطفالنا، بدلاً من ارتباطهم «بكرتون» أجنبي له رموزه وقيمه وثقافته الخاصة.
وأذكر بأهمية العناية بالصناعات الإبداعية التراثية الثقافية، والتي تصنفها الأمم المتحدة إلى أربعة أقسام: من بينها: التراث الثقافي، (الحرف الفنية واليدوية ومواقع أثرية والمتاحف - مهرجانات)، وفنون بصرية واستعراضية (موسيقى وغناء/ مسرح/ رقص شعبي تراثي) وإبداع وظيفي (من عمارة/ أزياء تراثية.. الخ).
ولهذه الصناعات الإبداعية دور كبير في الناتج الإجمالي، وفي توفير فرص العمل، وقد فاق إسهامها في الناتج الإجمالي في بعض دول العالم (السويد، هولندا، فنلندا) صناعات كبرى فيها مثل الصناعات الغذائية/ أو قطاع البناء.. الخ.
ورغم وجود قواسم مشتركة، فإن لكل دولة عربية ما يميزها على مستوى تراثها المحلي، وثقافتها الشعبية، ولها صفاتها الخاصة التي جعلتها مرتبطة أكثر بالحياة اليومية، وتمايز بعضها عن بعض بسبب عوامل جغرافية وهجرات مختلفة، ولهجات وتقاليد خاصة.
هذا التنوع في الروافد، يمكن تعزيزه وإمكانية تفاعله مع بعضه البعض، من خلال التطور التكنولوجي للوسائط الإعلامية، الفضائية والشبكية، وتدوينها وإنشاء مؤسسات تعنى بشؤون الخصوصية التراثية في إطار التكامل والوحدة الثقافية، وما يسمى بالثقافة الجماهيرية التي تتوجه إلى كل الأفراد والجماعات التي تعايشت مع التراث الثقافي العربي (أمازيغية - نوبية - كردية - إفريقية..الخ).
وفي هذا الإطار يلاحظ وجود تقصير في إحداث كراسي أكاديمية أو أقسام للبحث في الثقافات الشعبية في أغلب الجامعات العربية وهناك ملاحظة تتعلق بالفاعلين الذين يتصل عملهم بالتراث الثقافي، فهناك المبدع والمنتج والفنان والصانع التقليدي والراوي الشعبي والمصمم والمعماري والممثل والمخرج وهو الذي يسهم في الإنتاج التراثي. وهناك (الإعلامي) المشتغل بالتراث ويروج له ويتابعه بالتعريف به، هذا الصحفي يلزم أن يكون ملماً بالعمل التراثي الذي يقدمه للناس.
وهناك الإداري الذي يقوم بتنظيم الفعاليات وينقل (التراث) يمكن أن يكون مقاولاً، ناشراً، تقنياً، مبرمجاً.
اليوم، في تقديري لا يوجد جسور كاملة بين هؤلاء الفاعلين، ما يؤدي إلى حدوث خلل كبير في الممارسة.
فالإعلام، لا يعطي مساحة مناسبة للتراث وللإنتاج الثقافي الإعلامي والإداري وعلاقتهم ضعيفة بالتراث الثقافي.
من هنا يجب معالجة هذا الأمر من خلال خلق المؤسسات التي تنظر إلى التراث نظرة شاملة ودقيقة وإعادة تكوين الفاعلين التراثيين الثقافيين.
إن حفظ الذاكرة الجماعية، هو صون للتاريخ العربي وتعزيز للهوية العربية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"