حينما تتوهج الذكريات

04:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. يوسف الحسن

يمر الزمان بنا، أو نمر به، وكأننا نطير على هودج من كوكب سماوي، نبحث عن ذكرياتنا وأحلامنا، ونشعر بأنها تمشي في أثرنا.
نستحضرها بين حين وآخر، لعلها تعيد إلينا الهواء والزمان، وتجعل أيامنا أطول وأسعد، وأكثر عطاءً وأعمق.
هي لحظات ممتدة، لحظات صفاء تضيء فيها النفس، وتتوهج الذكريات، ونتدبر خلالها الخلق والخالق والكون، ونلهج فيها بالثناء.
وندعو ونقول: «ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين».
هي لحظات تأمل، وخلجات نفس، تلح علينا أحياناً، ونُطلُّ على أصدقاء وأماكن وساحات وقصائد، وأحداث.
نذهب إلى البحر قبل الغروب، وسرب من الطيور عائدة إلى أعشاشها المنصوبة بين زوايا أوراق الشجر.
ماذا سنفعل للحنين والذكريات، ونحن نحدق في البحر، وننصت لصوت أمواج البحر، نسائلها أن تمسح عنا التعب، وتهبنا السكينة والصفاء.
نجلس في مقهانا المعتاد، وحريتنا، نسائل واقعنا غير صامتين، ويسأل رفيقي: هل يمكن لك أن تفكر، حين تكون السماء رمادية؟
نتشارك قهوة الصباح، وأكمل وحدي قراءة رواية تولستوي، «الحرب والسلام»، وأتبادل مع فيروز موشحات أندلسية، لا أحد يأخذ منَّا أندلس الزمان، ولا رائحة العشب بعد المطر، ولا ذكريات مع أدباء وشعراء وظرفاء وساسة، جاؤوا في زمن كانوا شهوداً عليه، وأضاءت كلماتهم في ليل قرى ومدن عربية، وارتوينا منها عبر السنين، وتغنينا معهم بالمستحيل وألقوا علينا أسئلة، ثم غادر من غادر، وبقي من بقي.
استعدت في ليلة قمرية، حكاية «مدينة النحاس التي تقول عنها قصة في»ألف ليلة وليلة«: «إنها مدينة لم ترَ العيون أعظم منها، قصورها عالية، وقبابها زاهية، ودورها عامرات، وأنهارها جاريات، وأشجارها مثمرات، ورياضها يانعات، ولها أبواب منيعة، ولكن لا حس فيها ولا أنيس، يصرخ البوم في جهاتها، يحوم الطير في عرصاتها، وينعق الغراب في نواحيها، كأنه يبكي على من فيها».
عدت ليلتها إلى رواية»الحب في زمن الكوليرا«للروائي جارسيا ماركيز وتأكدت أن أحوال الأمم لا تدوم على وتيرة واحدة، وأن «أعراض الحب، مشابهة لأعراض الكوليرا» كما يقول ماركيز. حضرت في البال «أعراض الفيروس كورونا»، فهل هي أيضاً تشبه أعراض الحب «القاتل».. في زمن تعولم فيه الوباء؟ (*) في الصباح، تذكرت ما قرأت ليلتها، وتساءلت عن هذه المدن التي تغيرت، وصارت نهباً للموت والضياع، أهي الحروب، أم الطاعون أو الكوليرا أو التيفوئيد أو الفساد أو الإسراف والتبذير أو الاستبداد، أو.. أو، وما ورد في (مقدمة ابن خلدون) عن أطوار الدول والأمم، أم أنها من خرافات القصاصين؟
نتذكر أصدقاء، لم يتقاعسوا عن الشك الحافز إلى التغيير والتجديد، ولم يُقيلوا العقل الناقد الابداعي.
ورفيقي النبيل، الذي كان عاشقاً للحرية والعدالة والجمال، ويمتلك عافية الوفاء والإخلاص، ونخوة الرجال، والآخر الرقيق في شكواه من تدهور العافية العربية، الشفيف في نفسه، المتآخي مع الفضائل الإنسانية، وفرسان آخرون امتطوا صهوة أحصنة الإبداع والوطنية والمسؤولية، وجهروا بآرائهم إلى حد التمرد.
لا نتلفظ بأسمائهم، دون أن يرتعش الوجدان، وتأسرك ذكرى وجوههم، وتحاول الإمساك بالزمن المدهش. يهرب الزمن وَيفرُّ من أصابعك، وتكتشف أن نجوماً مضيئة قد وقعت فوق صورهم في الذاكرة.
يهبط الزمن الثقيل، مع المساء، تختبئ الأحلام، وتحضر هواجس الروم والترك والجوار الفارسي، وجُند»يُهُوشُع»، فتقرأ «المعوذات» و«آية الكرسي»، وتذرف دمعة على الغائبين، وتصحو على نشيد رجال وهم يسرجون خيلهم، ويفتحون طريقاً لضيوف الزمن القادم.. «لنُربِّي الأمل» ياأصدقاء.

* كتبت هذه الخاطرة، قبل مرحلة العزلة الاجتماعية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"