روايات في كل مكان

ظاهرة تستحق الانتباه
05:21 صباحا
قراءة 6 دقائق

استوقفني في معرض الشارقة ذلك الحضور الكثيف للرواية، حتى إننا يمكننا أن نجد الرواية في كل مكان، دور نشر معروفة بمطبوعاتها الفكرية تضع الروايات في واجهة أجنحتها، بل إننا عندما نطالع قائمة منشوراتها الأخيرة سنلاحظ غلبة الرواية عليها، والحال نفسه سنعثر عليه في دور نشر عرف عنها اهتمامها بالشعر، ستسمع في جناح هذه الدار من يسأل عن الحب في زمن الكوليرا لماركيز، أو قايين لخوسيه ساراماغو، أو حفلة التيس لماريو باراغاس يوسا ومن يطلب النبطي ليوسف زيدان في تلك الدار، وستشاهد أحد المسؤولين في دار نشر يسارع إلى جناح دار أخرى ليجلب رواية ما سأل عنها أحد القراء .

في جناح دار نشر المركز الثقافي العربي المغرب التي كنا نذهب إليها لشراء كتب محمد أركون ونصر أبوزيد وعبدالله الغذامي . . إلخ، وحيث كانت تحتفي بكتبهم وتضعها في المقدمة، ولم تستطع الدار إلا مسايرة مناخ زمن الرواية فبدأت بإعادة طبع أعمال ديستويفسكي وتولستوي وتورجنيف وبوشكين وحتى ليرمنتوف، ثم الطاهر بن جلون ومحمد الأشعري، وأخذت حقوق ترجمة إميلي نوثومب وميلان كونديرا .

في دار علاء الدين سوريا، حيث كنا ننتظر إنتاج فراس السواح حول الميثولوجيا تأخذك تجد الرواية أيضاً موقعها في الصدارة . في دار الشروق مصر ستعثر على سلسلة باسم نصوص مميزة تعيد طباعة الروايات العربية الجيدة التي لم تأخذ حظها من الشهرة والانتشار في زمن آخر . . . زمن الشعر أو الفكر، الدار التي كانت تفخر بأعمال زكي نجيب محمود، تحتل الرواية أرفف جناحها . في دار سطور مصر التي كانت تترجم أعمالاً ذات جدل سياسي وفكري في الغرب، تصدر الآن سلسلة بعنوان ذاكرة الأدب تعيد فيها طباعة الروايات العالمية التي لم تأخذ حظها من المتابعة في الساحة العربية، في المركز القومي للترجمة في مصر ستجد أيضاً سلسلة جديدة بعنوان ميراث الترجمة حيث إعادة الترجمات الجيدة لروايات عالمية . المؤسسة العربية الحديثة المعروفة بمطبوعاتها الموسوعية، يمتلئ جناحها بأعمال الكوني وسليم بركات وعبد الرحمن منيف . وبإمكانك أن تشاهد ملصقاً تضعه إحدى دور النشر عالياً يخبر الرواد من بعيد بتوافر إحدى الروايات المطلوبة .

أدب أمريكا اللاتينية الروائي لم يعد حكراً على ماركيز وإيزابيل الليندي وماريو بارغاس يوسا وجورجي آمادو، وتلك الأسماء القليلة والمعروفة في الساحة العربية، بل هناك الآن المكسيكية أمبارودابيلا وماريو بينيديتي من الأوراغواي والتشيلي خوسيه ميغيل باراس والنيكاراغوية غيوكندا بيلي . . إلخ . واتسع الفضاء الإفريقي ليشمل الكاتب الغابوني جانديفاسا نياما والجنوب إفريقية ماري واطسون .

بإمكانك الآن أن تجد أيضاً روايات يابانية وصينية، لم يعد الأمر قاصراً على ياسوناري كاواباتا الياباني الحاصل على نوبل، بل إن أعمال هاروكي موراكامي الغابة النروجية ورقص . . رقص . . رقص وجنوب الحدود، غرب الشمس . . إلخ متوافرة بغزارة .

منذ سنوات قليلة لم نكن نعرف إلا جوائز نوبل والبوليترز والبوكر، أقرأ الآن على غلاف رواية نظافة القاتل لآميلي نوثومب أسماء جوائز جديدة مثل رينيه فاليه وآلان فورنييه، أما الهيئة المصرية العامة للكتاب فاستحدثت سلسلة بعنوان سلسلة الجوائز صدر منها ما يقرب من 100 رواية، في كل إصدار جديد ستقرأ عن جائزة أيضاً جديدة: الأورانج البريطانية، نادال الإسبانية، جائزة الرواية الأولى الفرنسية، الفيمينا الأمريكية، نظرات أدبية الألمانية، كوستا الاسكتلندية . . وغيرها .

إن ما تتبعه الكثير من دور النشر الآن من وسائل عدة للترويج للرواية يؤكد أن هذا المنتج لم يعد يستهدف القارىء المتوقع وحسب المثقف التقليدي، بل أيضاً القارىء العابر، ومن أهم هذه الوسائل الغلاف، فماذا يعني أن يكتب على الغلاف الأمامي لرواية نسيان للجزائرية أحلام مستغانمي لا تباع للرجال .

على الغلاف الخلفي لرواية . .وبعد للفرنسي غيوم ميسو نقرأ: هذه الرواية خطرة . حين تبدأ بقراءتها لن يكون بإمكانك تركها قبل أن تنهي صفحتها الأخيرة، ثم تبلغ عوامل الجذب ذروتها هذه الرواية ترجمت إلى 20 لغة وتحولت إلى فيلم، أو أن تقرأ على الغلاف الامامي لرواية أجنحة الفراشة لمحمد سلماوي: الرواية التي تنبأت بثورة 25 يناير .

ويلعب الغلاف الدور نفسه بالنسبة للمثقف، فعلى الغلاف الخلفي لرواية سانتا إيفيتا للأرجنتيني توماس إيلوي مارتينث نقرأ لغابرييل غارثيا ماركيز: ها هي ذي، أخيراً، الرواية التي لطالما رغبت في قراءتها، ولألبيرتو ما نغويل عن صحيفة الأندبندنت البريطانية: إنها أفضل رواية تصل من أمريكا اللاتينية منذ (مئة عام من العزلة) .

اسم المترجم بدوره أصبح عاملاً مهماً في انتشار الرواية، فالمترجم السوري صالح علماني أسهم بدور كبير في رواج أدب أمريكا اللاتينية المكتوب بالإسبانية، ووصل الحال إلى إننا نقتني أحيانا رواية ما لمؤلف غير معروف بدرجة كافية وكلنا ثقة في جودتها نتيجة لاسم المترجم . وانتشرت أيضاً رواية النوفيلا أو الرواية القصيرة وهناك دور نشر يركز إنتاجها على هذا الشكل الروائي مثل أزمنة الأردنية التي ستعثر فيها على أعمال لويس سيبولبيدا وأناييس نن وأرنستوساباتو . . إلخ .

لقد أصبحت الرواية ظاهرة تستدعي التوقف والدراسة، خاصة مع الإعلانات السخيفة عن موت القصة وتراجع الشعر، ومطالبات أخرى بحركة نقدية توازي هذا الانتشار الملحوظ وغير المسبوق . إن توجه الشعراء إلى كتابة الرواية لم يكن العامل الحاسم في الموازنة بين الشعر والرواية والميل إلى تفضيل هذا الجنس الأدبي في السنوات الأخيرة، ولكننا نلاحظ أيضاً توجه الباحثين إلى الرواية، فيوسف زيدان الذي قضى حياته كلها محققاً للتراث ودارساً له لم يتح له الانتشار والتعبير عن أفكاره والكتابة في صحف عدة إلا على خلفية ما أحدثته رواية عزازيل من ضجة، أعقبها حصولها على جائزة البوكر العربية، وهو ما يتشابه مع حالة إمبرتو إيكو وروايته اسم الوردة، وهو ما يعني أننا ربما نفاضل مستقبلاً بين الرواية وكتب التاريخ، وهو أمر نلمح بداياته في الجدل الذي يدور كثيراً بخصوص كيفية تناول الروائي للتاريخ . وربما يستمتع القارئ برواية الطريق إلى أصفهان لجيلبرت سينويه عن ابن سينا، أو هذا الأندلسي لابن سالم حميش عن ابن سبعين أكثر مما سيلاقيه من صعوبة في مطالعة كتاب لهما أو عنهما .

الرواية أيضاً سؤال اجتماعي، المتابع للمقولات المتناثرة حولها هنا أو هناك في هذا الكتاب أو ذلك الحوار، بإمكانه أن يلاحظ أنها أصبحت الفن المرتبط بالمدينة أو التمدن وازدهار الطبقة الوسطى وقضايا المرأة، وهي مفاصل ثلاثة يراوح حولها الفكر العربي السيسيولوجي منذ عقود طويلة .

الرواية مرة ثالثة ترتبط بقدرتها اللامحدودة على التخييل وإبداع عوالم موازية تغرب القارئ عن واقعه الحقيقي ولكنها تجعله قادراً على الفهم الذي يقوده إلى الاحتجاج في لحظة ما على نحو ما أشار إليه يوسا في كتابه رسائل إلى روائي شاب، وهي تمتلك من التقنيات التي تجعلها تتماس بسهولة مع إبهار فن السينما، وذلك منذ أبدع نجيب محفوظ الرواية المشهدية المتأثرة بالسيناريو .

الرواية كفن أدبي عربي وبعيداً عن تنظيراته الغربية، والتي ربما لا تكون مقروءة جيداً في الساحة العربية، سنلاحظ أنه يرتبط أكثر بتعريفات سلبية، فهي لا تتطلب: تكثيف القصة القصيرة، أو حرفية الحوار المسرحي، أو قواعد الشعر ومهاراته اللغوية، أو ضبط المناهج الاجتماعية، أو صدقية وصرامة المؤرخ . أنها شيء يعرف بمفهوم المخالفة إذا استعرنا الاصطلاح الفقهي .

عُرف جابر عصفور كناقد أدبي مهموم بمسألة الحداثة، أو التنوير، بصيغة أخرى، وربما حالة عصفور تعطينا هنا إضاءة عن الرواية كظاهرة تستدعي التوقف والدراسة، ففي كتبه: محنة التنوير 1992 وهوامش على دفتر التنوير 1993 وإضاءات 1994 وأنوار العقل 1996 وغيرها سنجده يحلل تجليات التنوير في معاركه الفكرية والشعرية وهي التجليات التي سيعثر على ما يقابلها بعد ذلك في الرواية، فهذه الأخيرة ستعبر عن الوعي المديني وستناقش إشكاليات الهوية، إنها غواية التحديث على نحو ما نقرأ في كتابه الأخير الرواية والاستنارة . الرواية هنا وعاء أدبي مفكرن .

نسينا هنا أن نقول إنه على الرغم من وجود الروايات بغزارة وفي موقع الصدارة في دور النشر العربية المشاركة في المعرض، إلا أن معظم ما صادفناه كان روايات مترجمة، ومعظم حالات الطلب على رواية ما أو السؤال عنها كان يتعلق بروايات شهيرة جداً أو حاصلة على جائزة نوبل للآداب أو البوكر العربية أو روايات تنتمي لأمريكا اللاتينية . ولم نعثر على كتاب عربي تنظيري أو نقدي أو حتى راصد بخصوص حال الرواية العربية أو حتى العالمية، وحتى الكتب الغربية المعتمدة والمنظرة لفن الرواية فستجدها متوارية، أو مطلوبة من القارئ المتخصص . إنها مفارقة فانتازية تنتظر روائياً مبدعاً يعبر عنها وعن زمن الرواية وعن حالة الكسل الفكري والنقدي والإبداعي التي نعيشها بجمالية وإخلاص .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"