صيف ملتهب في الشمال السوري

03:40 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

تشير كل الشواهد إلى أن الشمال السوري سيشهد صيفاً شديد السخونة على كل جبهاته، من اللاذقية وإدلب غرباً إلى الحسكة ودير الزور في أقصى الشرق، فمعركة إدلب- المؤجلة- تلوح نذر انفجارها على نطاق واسع.. بينما تقدمت القوات السورية تحت غطاء جوي مكثف لتحتل شريطاً طوله (25 كم) وعمقه ثلاثة كيلومترات على الجبهة الجنوبية الغربية لمحافظة الرقة، وبالقرب من سد الفرات الاستراتيجي (28 إبريل المنقضي).

شهدت الأسابيع الأخيرة عمليات حرب عصابات عديدة وتفجيرات ضد قوات «قسد» في مختلف مناطق شرق الفرات، سقط خلالها عشرات القتلى من «قسد».. كما سقط قتيلان للقوات الأمريكية في تفجيرين منفصلين بمدينة الرقة، وهو أمر يحدث للمرة الأولى. وتظاهر سكان عدد من بلدان المنطقة ضد قسد و«قوات حماية الشعب الكردي» التي أطلقت الرصاص لتفريق المتظاهرين، دون سقوط قتلى، كذلك شهدت المنطقة تحركات سياسية مهمة.
وبالنسبة لإدلب فقد ثبت فشل «اتفاق سوتشي» بين موسكو وأنقرة (سبتمبر 2017) في نزع سلاح «هيئة تحرير الشام- جبهة النصرة» والفصائل الإرهابية الأخرى المتحالفة معها، وإقامة «منطقة منخفضة التوتر».
وعلى العكس تماماً من الاتفاق تمكنت (النصرة) من السيطرة على (85%) من منطقة إدلب الكبرى (محافظة إدلب وأجزاء من شمال شرق اللاذقية، وغرب حلب، وشمالي حماة).. وواصلت شن هجماتها ضد القوات السورية والحليفة، والمناطق المجاورة، بل ومحاولة ضرب قاعدة «حميميم» الروسية بطائرات «الدرون».
لكن الجديد هو بدء (النصرة) خلال الأيام الأخيرة في توجيه قصف صاروخي إلى أهداف مدنية في مدينة اللاذقية، وإلى قاعدة «حميميم»، بعد أن حصلت الجبهة على صواريخ يصل مداها إلى (60 كم).. ويشير الخبراء إلى أنها دقيقة التصويب، بحيث تمكنت من ضرب محطة (الباصات) في قلب اللاذقية.. وهو ما مثل تحدياً عسكرياً ومعنوياً خطيراً لكل من موسكو ودمشق، لم يكن ممكناً السكوت عنه، فتدفقت حشود كبيرة من القوات السورية و(الحليفة) إلى منطقة إدلب، وبدأ قصف جوي ومدفعي سوري وروسي مكثف لمواقع الإرهابيين، بما في ذلك تلك المجاورة مباشرة لنقطة مراقبة عسكرية تركية (لتحتمي بها)!
وبدأ الحديث يتجدد عن اجتياح إدلب، بعد أن كان بوتين قد استبعد هذه الخطوة مؤخراً بسبب وجود أعداد كبيرة من المدنيين في المنطقة (أكثر من ثلاثة ملايين نسمة).. غير أننا نعتقد أن اجتياحاً شاملاً لإدلب لن يحدث في الوقت الحالي على الأقل، لأن مشكلة هذه المنطقة قد تخطت البعد (الروسي- السوري- التركي) لتكتسب أبعاداً أوروبية ودولية، بعد تسليط الضوء عليها لفترة طويلة، والمناقشات الواسعة في الغرب عن خطورة اندفاع موجة كبيرة من المهاجرين إلى أوروبا حاملة معها عشرات الآلاف من المقاتلين الإرهابيين شديدي البأس.
ويبدو أن السيناريو المرجح خلال الفترة القادمة هو شن هجمات برية وجوية مكثفة جداً على مواقع الإرهابيين، خاصة في أطرافها الأقرب إلى تهديد الأهداف الاستراتيجية السورية والروسية، ودفعهم إلى الأجزاء الداخلية للمنطقة، وتشديد الحصار عليها، بما يتيح إبعاد التهديد عن اللاذقية وقاعدة «حميميم» وحلب على الأقل، مع تشديد الضغوط الروسية على تركيا لضبط حركة (النصرة) بصورة تتيح تحقيق هذا الهدف.. وفي انتظار تغيير في الظروف الدولية والإقليمية يسمح باقتلاع النصرة وحلفائها من جذورهم.. وهو السيناريو الذي كان مرجحاً قبل «اتفاق سوتشي» الذي نسميه «استراتيجية قضم الأطراف».
السؤال الذي يبرز هنا بإلحاح هو: إذا كانت تركيا تسيطر عسكرياً على إدلب.. وإذا كانت المخابرات التركية متغلغلة تماماً في صفوف (النصرة) والمنظمات الإرهابية الأخرى.. فلماذا سمحت بوقوع كل التطورات الخطيرة التي أشرنها إليها؟ ولماذا تتلكأ هكذا في نزع سلاح تلك المنظمات؟
الواقع أن تركيا لم تكن جادة أبداً في تنفيذ «اتفاق سوتشي».. فلديها أطماعها التاريخية في الشمال السوري كله، من إدلب غرباً إلى الحسكة شرقاً، ومروراً بحلب والرقة وغيرهما من مدن الشمال.. وهي تريد كسب الوقت للمضي قدماً في عملية (التتريك) بكل تفاصيلها في شمال غرب سوريا.. ومن ناحية أخرى فإنها تبني سمعتها السياسية في صفوف حركات الإسلام السياسي في العالم على احتضانها جماعة «الإخوان المسلمين» وتنظيمها الدولي وتلك الجماعات الإرهابية التي تشرب من نفس البئر الآسنة، سواء كانت في سوريا أو العراق أو ليبيا وغيرها.. وهي تستخدم تلك الجماعات كأدوات لتحقيق مصالحها ونشر نفوذها ولهذا فإن أنقرة لا تريد تصفية (النصرة) ولا غيرها من الجماعات الإرهابية، حرصاً على (مكانتها) ونفوذها وأدواتها ووفاء لأيديولوجية حزب أردوغان الحاكم.. «العدالة والتنمية».
حسناً، ولكن ما الذي يضطر روسيا وبوتين إلى الصبر على كل هذه المكاره؟ الإجابة هي ما يمكن أن نسميه تجاوزاً «حلف الضرورة اللدود».. أو «حلف الضرورة الملغوم».. الحاجة إلى مواجهة الحصار الأمريكي والأطلسي.. والرغبة في الاستفادة من- وتعميق- التناقضات التركية مع أمريكا لاجتذاب أنقرة ولو لخطوات بعيداً عن واشنطن.. وضرورة تأمين مضيقي البسفور والدردنيل، ممر روسيا من البحر الأسود إلى البحر المتوسط. وبالطبع.. المصالح الاقتصادية المتبادلة.
وإذن فإن اجتياح إدلب لا بد أن ينتظر.. ولا مفر من الصبر على التواطؤ التركي مع (النصرة).. في انتظار ظروف أفضل، ولا بد أن تنتظر دمشق أيضاً.. لأنها غير قادرة على إنجاز المهمة وحدها.
وإذا عدنا إلى الشمال الشرقي السوري فلا بد أن نلاحظ أن الخطوة التي اتخذتها دمشق بالسيطرة على منطقة في محافظة الرقة- وبدعم جوي روسي مكثف- وإجبار الأكراد على الانسحاب، هي خطوة تشير إلى الرغبة التي لا تخلو من الجرأة في استثمار قرار ترامب الانسحاب من سوريا، حتى ولو لفرملة، البنتاجون جزئياً، وفي اختبار ردود فعل واشنطن.
ومن ناحية أخرى فإن دمشق تحافظ على علاقات جيدة مع عدد كبير من العشائر العربية في شرق الفرات، ومع الأقليات القومية والعرقية في المنطقة (خاصة الآشوريين والأرمن والشركس).. الذين تحالفوا مع الأكراد (ومع وحدات حماية الشعب الكردية في إطار «قسد») تحت رعاية التحالف الدولي لمواجهة داعش.. لكنهم بعد هزيمة داعش وانسحاب أمريكا يفضلون في أغلبهم العودة إلى الدولة السورية.. وقد ضاقوا ذرعاً بادعاءات الأكراد حول «دولة» لهم بينما هم يمثلون أقل من ربع سكان المنطقة (الأغلبية للعرب).. وباستقواء الأكراد بأمريكا لهذا فقد بدأت «قسد» تتشقق..
ومما يشجع معارضي «قسد» ويرفع معنوياتهم هو ذلك التوجه المعلن والمتزايد القوة لدى دمشق وبغداد لرفع مستوى التعاون العسكري والمخابراتي بينهما في المنطقة الحدودية، وهو ما يضيف عنصر قوة جديداً لغير صالح الأكراد.. وخلاصة القول إن الشمال السوري من غربه إلى شرقه مقبل على صيف شديد السخونة.

* كاتب مصري
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"