ظلال "التايتانيك" في رائعة كارلوس فوينتس الروائية

مرايا الزمن
03:51 صباحا
قراءة 3 دقائق

لايزال الشعور الممحض بمرور الزمن قادراً منذ أقدم العصور على إضرام النار تحت حطب الفنون اليابس ورفد الكتابة بأكثر عناصرها توهجاً واحتداماً . فمنذ ملحمة قلقامش التي دوّن السومريون من خلالها وثيقة خوفهم من الزوال وسعيهم لامتلاك الرقية السحرية الشافية من الموت وحتى يومنا هذا، لا يكف الشعراء والمبدعون عن تكرار المحاولة ذاتها بحثاً عن خلود متوهم يمكن الاسم من النجاة في غياب المسمى . ولم يكن هاجس الموت هو وحده ما يؤرق البشر، بل يضاف إليه هاجس الاحتفاظ بالشباب الدائم والحيوية المتجددة . ذلك أن الحياة مع الشيخوخة قد تكون بالنسبة إلى الكثيرين أشد وطأة من الموت نفسه، لأن البشر لا ينامون مع الموت في سرير واحد ولا يعون حالة الموت نفسها ولكنهم يعاينون شيخوختهم عن كثب ويرون بهلع التحولات التراجيدية التي تصيب أجسادهم بالتلف وعقولهم بالتشوش وذاكرتهم بالنسيان .

لم يكن الروائي المكسيكي الشهير كارلوس فوينتس سباقاً إلى مقاربة الشيخوخة وتهدم الجسد في النص الروائي . فلقد بدا هذا الموضوع أثيراً وموضوع اهتمام من قبل عشرات الكتاب والشعراء والفنانين . ولعل غابرييل غارسيا ماركيز، المولود مع فوينتس في العام ذاته، كان واحداً من أكثر الكتاب العالميين اهتماماً بالزمن وتصرم الشباب ومكابدات المراحل الأخيرة من العمر . وهو ما بدا واضحاً في الجنرال في متاهته وخريف البطريرك ولم يعد للكولونيل من يكاتبه، إضافة إلى رائعة ماركيز الروائية الحب في زمن الكوليرا، حيث يتم قهر الشيخوخة بالحب، وذاكرة غانياتي الحزينات التي تعرض للعلاقة بين عجوز في التسعين وصبية يافعة في عقدها الثاني .

يبدأ كارلوس فوينتس لروايته القصيرة والرائعة اورا بإعلان في جريدة يقرؤه فيليب مونترو المتخرج حديثاً في قسم التاريخ في جامعة السوربون، حول وظيفة شاغرة متعلقة بالاختصاص نفسه . وحين يذهب البطل لاستطلاع الأمر يقابل امرأة طاعنة في السن تطلب إليه الاعتناء بأوراق زوجها الراحل قبل ستين عاماً، الذي شارك بوصفه جنرالاً في الجيش في المعارك الطاحنة التي خاضتها المكسيك من أجل استقلالها أواسط القرن التاسع عشر .

في تلك الأثناء يقابل بطل الرواية فتاة فائقة الجمال وذات عينين خضراوين تقدمها العجوز لفيليب بوصفها ابنة أختها التي تعيش معها بشكل دائم . وإذ يتعلق المؤرخ الشاب بالفتاة اليافعة يشعر أن العالم الذي وضع فيه يكاد يكون عالماً متخيلاً أو مزيجاً من الحلم والواقع، خاصة أن المنزل يقع في حي قديم من المدينة والإضاءة شحيحة جداً في الغرف والأروقة . وفي هذا المناخ الغامض يلحظ البطل الشاب وجود أعداد غير قليلة من القطط والجرذان في المكان شبه المظلم، ليكتشف شيئاً فشيئاً من خلال فصول سيرة الجنرال الراحل أن هذا الأخير كان ارتبط بعلاقة عاطفية بالمرأة العجوز كونسويلو التي كانت في عز ألقها آنذاك، وأنه كان وعدها بأن يظل على حبه لها حتى تجاوز عمرها المئة عام . هكذا وبعد رحيل الجنرال ألحت المرأة على الاحتفاظ بكل مقتنياته، وظلت تخاطبه كما لو أنه لايزال على قيد الحياة . كما أنها حافظت على عادتها في خنق القطط التي لازمتها عقدتها منذ طفولتها المبكرة . وحين بدأت تشيخ فرضت على ابنة أختها أورا التي تشبهها كثيراً أن تلازمها على الدوام لكي ترى فيها ظلها في مرآة الصبا . وخلال أحداث الرواية يقيم فيليب علاقة عاطفية مشوبة مع أورا، ليكتشف في ظلام المنزل أن المرأة العجوز كانت حاضرة دائماً في غرفة الحب، سواء بالأصالة عن نفسها أو من خلال ابنة أختها الحسناء . ذلك أن كونسويلو لم تقف عند حد التماهي مع جمال أورا النضر بل أرادت لفيليب الشاب أن يتماهى بدوره مع زوجها الراحل قبل ستة عقود، وأن تستعيد من خلاله لحظات حبها الوحيد التي ترفض وضعها في عهدة العدم .

لا أعرف لماذا ذكرتني بطلة كارلوس فوينتس ببطلة فيلم التايتانيك التي ربطتها قصة حب مماثلة بشاب وسيم ما لبث أن قضى نحبه في حادثة تحطم السفينة الأعظم في مطالع القرن العشرين، فالمرأتان كلتاهما تعيشان على الذكريات وتستعيدان لحظات الحب ذاتها التي استعصت على الذبول، ومن خلالها تستعيدان جمالهما الفاتن وشبابهما المفقود . وفي كلتا الحالتين يتقدم الفن بشقيه السينمائي والروائي لكي يضيء ظلمات الحياة المنقضية ويوفر للمصاير البشرية المتهالكة عزاءها المناسب .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"