علي بن سعيد النقبي: أجدادنا شعراء معروفون وأطباء سبّاقون

يروي «سيرة المكان» ويربط «الجغرافيا» بحكايات الآباء
01:59 صباحا
قراءة 5 دقائق
رأس الخيمة: عدنان عكاشة

يرتبط تاريخ المكان بقامات وطنية وشخصيات مجتمعية، احتلت مساحة واسعة، تاريخياً، في العمل الوطني والاجتماعي، في ظل تداخل وتكامل بين الجغرافيا والإنسان، وهي علاقة وثيقة الصلة، لا سيما في وطن مثل الإمارات، وهو الأمر الذي تترجمه حرفياً منطقة خورفكان، عروس الساحل الشرقي.
علي بن سعيد بن صالح بن حميد النقبي (72 عاماً)، أحد الرواة الشفاهيين في الإمارات، ولد عام 1945 م، وهو من الشخصيات المجتمعية بمدينة «خورفكان»، يروي ل«الخليج»، سيرة المكان وتاريخ أعلام من قبيلته «النقبيين»، على مدار 100 عام من الزمن، فيما يبدو الرجل ذاكرة حية وخزانة أسرار وحيثيات وتفاصيل تاريخ المكان وسيرة المنطقة تاريخياً. يسلط النقبي الضوء على السيرة التاريخية لجده الأمير علي بن صالح بن حميد النقبي، من مواليد 1852، حيث رأى النور في منطقة تسمى «الزبارة»، التابعة لمدينة «خورفكان» في إمارة الشارقة، وجمع الجد بين «الولاية» و«الشعر» والإصلاح والحكم بين الناس، كما كان طبيباً شعبياً، يتداوى الأهالي بين يديه بواسطة الطب الشعبي المتوارث، سواء بواسطة الكي «الوسم» أو الأعشاب الطبية، إذ ولاه الشيخ سعيد بن حمد بن ماجد القاسمي، رحمه الله، الذي كان حاكماً لمدينة «كلباء» في الشارقة، ولاية مدينة خورفكان عام 1916، وكان علي النقبي من أفضل شعراء الإمارات إجمالاً في ذلك الزمن.

أبرز القصص، التي يرويها علي بن صالح عن جده، ارتبطت بحقل «الطب الشعبي»، حين تعرض أحد أبناء قبيلة النقبيين، من أقاربه، لقطع إحدى ذراعيه بضربة سيف، في مشاجرة بين عدد من الأهالي، نتيجة مشكلة نشبت وقتها، بسبب خلاف بينهم، حيث داهمه المعتدون خلال توليه حراسة مربعة أو قلعة تراثية في المنطقة، بعد أن نزل منها ليحضر مياهاً، ففوجئ بهم، وهم مسلحون بأسلحة نارية، لكن الطرف الآخر عدل عن إطلاق النار عليه، في ظل «القرابة»، التي تجمعهما، واختار قطع ذراعه.
يقول علي بن سعيد: «أجدادنا شعراء معروفون في المنطقة وأطباء سباقون في العلم، فبعد الحادث المؤلم والدامي، حمل عدد من رجال القبيلة الضحية بواسطة نقالة، كانت حينها في الأصل باباً لمنزل العريش، المصنع من جريد النخيل، إلى جدي، والي خورفكان حينها، باعتباره طبيب المنطقة، في مفهوم تلك الأيام، واستقبلهم في منزله».
لفتت الطريقة، التي عالج بها ابن صالح، وهو أشهر طبيب شعبي في المنطقة وقتها، الأنظار إلى تقنيات الطب القديم في الإمارات وآلياته وجرأة العاملين في حقله من الأطباء الشعبيين، فبدأ العلاج بربط حبل في سقف الحجرة، ثم ربط الذراع الباقية والأخرى «المبتورة» بالحبل المتدلي من السقف، فيما كان الرجل المصاب مفرود الذراعين وهو جالس وسط الغرفة، لتتساوى الذراع المبتورة بعد إعادة تخييطها مع الأخرى السليمة، ويتوازن طرفا الرجل، ومن أجل دقة عملية الخياطة أو زراعة الذراع المبتورة. ثم بادر الجد المعالج إلى تخييط الذراع المبتورة بواسطة خيط من الحرير يسمى محلياً ب«بريسم»، الذي كان يأتي به التجار من الهند.
ويستطرد الراوي: ظل «النقبي»، المصاب في الواقعة، مربوطاً على ذلك الوضع خلال عملية «الخياطة» وإعادة زراعة الذراع، في منزل والي «خورفكان»، ابن صالح، الذي كان ينوب عن حاكم كلباء بمنطقة خورفكان في ذلك الزمن، فيما استمر العلاج 3 أشهر متتالية، وكان الطبيب المعالج والوالي في الوقت ذاته يستخدم مياه البحر القريبة، لما تحتويه من نسبة عالية من الأملاح، وسكبها يومياً على موضع الجرح والخياطة، لتعقيم الجرح وليلتئم في أسرع وقت ممكن، وهو ما انتهى بعد 90 يوماً تقريباً بالتئام الجرح فعلاً، وشفاء الرجل الجريح، ليعود إلى استخدام ذراعه ومزاولة حياته اليومية بصورة طبيعية.
صورة تاريخية
يملك الراوي صورة قديمة، تعود إلى عام 1917، إبان الحرب العالمية الأولى، التقطها مصور إنجليزي، يدعى وليام فيس جوليان، من أوائل مصوري «الإمارات المتصالحة» آنذاك، يركب فيها جده علي بن صالح سفينة خشبية تقليدية بجانب عدد من وجهاء منطقة «خورفكان»، وهي تتجه من ساحل المنطقة، ميناء خورفكان، صوب سفينة بريطانية تعود للبحرية الملكية، كانت تعرف ب«فوكس»، في إطار بحث بعض القضايا المحلية وشؤون المنطقة مع الجانب البريطاني.
يتطرق علي بن سعيد، لقصة والده سعيد بن علي بن صالح النقبي، والي «خورفكان»، الذي تسلم، بدوره، العهد والأمانة من والده، وهو أيضاً جمع بين «الشعر» والخطابة والإمامة والإصلاح بين الناس، فيما ولد بداية القرن العشرين، وفق تقديرات أبناء العائلة والقبيلة، تحديداً في 1919، وتوفي عام 2000، عن عمر يناهز 81 عاماً.
وكان ابن صالح «الأب» يقسم ويصلح بين الناس في «خورفكان»، وفق أحكام العدل وضوابط «الحق»، بحسب رواية نجله الراوي علي بن سعيد بن صالح، إذ يعود الأهالي إليه آنذاك لحل خلافاتهم، والبت في نزاعاتهم في مختلف شؤون الحياة والقضايا المتنوعة.
«التحوريب»
في ميدان الشعر، تعد قصيدة الألفية أو «الألف بائية»، للشيخ سعيد بن حمد بن ماجد القاسمي، حاكم كلباء في تلك الحقبة، 1903- 1937م، من أشهر ما يتداوله «النقبيون» في موروثهم وتقاليدهم، كما يقول علي بن صالح، بجانب فن مصاحب لإلقاء القصيدة وإنشادها، ويطلق عليها عند أدائها مصحوبة بالتلويح بالسيوف «العزواه» أو «التحوريب».
وسميت القصيدة ب«الألفية» أو «الألف بائية» لأن كل بيت من أبيات القصيدة الشعرية، المكونة من 30 بيتاً، يبدأ بحرف من حروف الهجاء وفق الترتيب الأبجدي، وتختتم ببيتين إضافيين في نهاية القصيدة، في حين سميت ب«العزواه»، من «العزوة»، أي الأهل والأقارب ممن يستند إليهم ويشكلون عضداً وسنداً، دلالة على استنفار أبناء القبيلة والأقارب من باب «الفزعة» والحماس ونجدة الأخ وابن العم والقريب، وهي قصيدة تقال، قديماً، قبل المعارك، وأثناء الأعياد والأفراح والمناسبات السعيدة، بينما يرتبط الاسم الآخر للقصيدة «التحوريب» بمصطلح «الحرب»، نظراً لقولها وإنشادها قبل الحروب سابقاً.

القصيدة، الشهيرة شعبياً، والمتداولة أباً عن جد بين أبناء قبيلة «النقبيين»، تحكي عن الأوضاع في ذلك الزمن. ويأتي في مطلعها:

«الألف: ألفت الكلام من يوم لي دار الولام.. الحمد للي ما تنام عينه وتجلي كل هم
الباء: بلطفك يا لطيف يا راحم العبد الضعيف.. أنت زبون المستخفيف منشي الخلايق من عدم
التاء: ترانا في حماك يا رب ما نرجو سواك.. يا من تدابير الأفلاك بيدك وأجريت القلم
الثاء: ثبتنا ما نحول نمشي على نهج الرسول.. الله يذل اللي يقول قولا وآخر ما يتم
الجيم: جاروا في البلاد ناس يريدون الفساد.. اللي عصو رب العباد لازم تحل ابهم نقم
الحاء: حمينا دارنا والله رفع مقدارنا.. ما نعيب في خطارنا والضيف معنى له حشم».
الحرب الأولى
الجد الشاعر، بدوره، نظم قصيدة معروفة، شاكياً للشيخ سعيد بن حمد بن ماجد القاسمي، بعد أن أرسلها إليه، يشكو فيها أحوال العباد والبلاد في منطقته، جراء الحرب العالمية الدائرة رحاها بين القوى العظمى في العالم، وما صاحبها من أوضاع اقتصادية صعبة، قال فيها:
«هذي السنة صارت مذلة.. آزمت على الناس خله
لي عثر ما حد يشله.. موت بغمك يا حزن
هذي السنة لعوزتنا.. بالمحاين عطلتنا
آه يا سنين لفتنا.. واقصرت عنا اليدينا».
«سنة الجوعة»
في قصيدة، يلقي الشاعر والمصلح الاجتماعي، سعيد بن علي بن صالح النقبي «الأب»، الضوء على الأحوال المأساوية والأوضاع الصعبة، التي عاشها أبناء المنطقة والإمارات عامة خلال الحرب العالمية الثانية، التي عرفت ب«سنة الجوعة»، وما ساد خلالها من فقر وأوضاع اقتصادية قاسية وانتشار بعض الأمراض.
وأورد الشاعر سعيد النقبي، في القصيدة، الأبيات التالية:
«باسالكم يا ذا الشعر تفيدونا.. ما قولكم في ذا الزمن وأحواله
وين الرجال أهل الرسوم وفعلهم.. قد بدلت وتشتت عذاله
وين القلاع شيدت بنيانها.. وين الحصون الشامخة الهيالة
وين البروج، اللي تعلت وانجزت.. شبابها ورجالها الفعالة
والخور أزهت وأظهرت شبانها.. والخيل خاضت في الدما شيالة
هم آل خثعم النقوب أسماءهم.. امحوزين جبالها وارمالها».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"