فن تشكيلي ... اكتمال تشكيلي قوامه الأسود على الأبيض

تيار فني شبه مستقل
00:48 صباحا
قراءة 5 دقائق
في العام 1964 صدرت للفيلسوف (رولاند بارت) مقالات في النقد تناولت النصين البصري والذهني في ثقافة الستينات الفرنسية، مركزة على ما هو سائد أو قيد التداول الانفعالي في باريس. وقد ركز هذا الباحث الفذ في خطابه النقدي على البنية التي تشكل الهيكل العام للنص، سواء أكان لغوياً أم تصويرياً، فإذا كانت اللغة هي المظهر البنيوي الذي يتأسس وفقه النمط النصي الخطابي، فإن التشكيل هو المعنى البنيوي العياني للنص البصري. لذلك فإن ما يحتاج اليه كل نص بصري هو موقف نقدي يعرفه (بارت) بأنه خطاب حول الخطاب، أي أنه لغة ثانية أو لغة واصفة تمارس على لغة أخرى تشكل موضوعاً. عمران القيسي إن العمل الإبداعي مهما كان جنسه يقدم نفسه كنسق دال معلن، ولكنه في المقابل يتوارى وينفلت من بين يديه كموضوع مدلول ليس بإمكانه أن يطابق بذلك الدال الأصلي. أما النقد فهو نشاط صوري في بنيته العامة، لكن ليس بالمعنى الجمالي وإنما بالمعنى المنطقي للفظ، لذلك يتحول الخطاب النقدي في النهاية إلى تحصيل حاصل.هنا وضمن حسابات الدال والمدلول أو الإشارة والمؤشر إليه، سوف نكتشف أن التحليل النقدي لأي عمل فني إبداعي، إنما يقوم في جانب أساسي منه، على حالة تفسيخية، تحلل اللون إلى عناصره التركيبية الأولى، وترجع الشكل إلى أساسه التقريري الأول.أما إذا كنا أمام تشكيل زيحي يعيدنا أصلاً إلى أبجدية الخطوط الأساسية، أي الخط الأفقي (The Horizontal) والخط العمودي (The Longitudilan) والخط المائل (Oblaique) وأخيراً الخط المنحني المجزوء من محيط الدائرة (The Curve)، إذ إن هذه الخطوط هي التي تكون الأشكال الزيحية عندما نملأ المسطح التصويري بهذه العناصر التجريدية، ولكن وفق نظام يخترعه الفنان الذي يقوم بعملية التشكيل. فهناك من يحول هذه العناصر التجريدية إلى أشكال تجريدية كبرى متنامية. وهناك من يصوغها صياغات تعبيرية بحيث يستنتج من تراكيبها أشكالاً إنسية أو طبيعية. إن عقدة العمق (The perspective) سوف تلغى كلياً عندما نقرر السيطرة على المساحة التصويرية برمتها ونبدأ بصياغة المنظور صياغة عقلانية ممتثلين قضية الأعماق وقضية العلاقة بين القرب والبعد، بحيث نرسم عبر الوهم البصري عالماً (ظلياً) يوحي لنا بكل ارهاصات اللون. إن عالم الأسود على الأبيض في مجال الرسم أو التخطيط موغل في القدم، حتى لكأننا نؤمن تمام الإيمان، بأن الرسم ابتدأ بلا لون، وحين اكتسب اللون ارتقى إلى محاكاة الطبيعة، لذلك فإن الشعوب الآسيوية برمتها، وهي شعوب موغلة في القدم الحضاري. رسمت وكونت بالأسود على الأبيض. وشكلت بالزيح أشكالاً موجودة بكامل ألوانها في الطبيعة، مغلبة بذلك النزعة التي تؤكد أن هذا المبدع المخلوق الذي هو دون مستوى الخالق الأكبر.بمعنى أنها تشترك مع النص الذهني بذات المادة وعلى ذات الخامة، لأن الأحبار التي رسمت بواسطتها الأشكال هي ذاتها التي كتبت فيها النصوص، فلا غرابة أن نرى العديد من الرسوم الآسيوية القديمة، صينية أو يابانية أو هندية أو غارهوالية أو إسلامية تتقارب فيها الرسوم الأحادية اللون مع النصوص المكتوبة بالأحبار ذاتها.إن وحدة النصين الكتابي والتصويري عبر وحدة المادة التنفيذية تضعنا إزاء معادلة بالغة الأهمية لأنها تحتاج إلى بصيرة نقدية بقدر ما تحتاج إلى مقدرة تحليلية فذة. وهنا يقرأ الناقد اللبيب لوحة الأسود على الأبيض قراءة مخالفة لتلك التي يقرأ بواسطتها اللوحة الملونة، سواء أكانت تعبيرية أم تجريدية، مع ذلك فإن العديد من الفنانين المشهورين بمقدرتهم التلوينية، يرسمون أشكالهم بالأسود على الأبيض، أي أنهم يدونونها على مسطحات مستقلة كتمارين أو مشاريع مبدئية. وهذا ما فعله أصلاً بابلو بيكاسو حين طلب (الجمهوريون) الاسبان منه أن يرسم مأساة قرية (جارنيكا) التي دمرها الطيران (الفرنكوي) خلال الحرب الأهلية الإسبانية أوائل ومنتصف الثلاثينات من القرن العشرين.رسم بيكاسو أكثر من 90 مفردة بالأسود على الابيض وحفظت هذه المدونات إلى جانب الجدارية الخالدة (الجارنيكا) وهي منشورة في كتاب خاص حيث تعتبر السجل الأصلي لبناء الجدارية الكبرى.وهناك العديد من الفنانين الذين انفردوا أصلاً برسوم الأسود على الابيض، أطلقنا عليها اسم (اسكتشات)، وربما محترفات كبار الفنانين العرب لم تزل تحتوي على هذا السجل اليومي المهم من التخطيطات او الاسكتشات المذهلة، ليس بوصفها مقدمة لمشروع لوحة ملونة كبرى، بل بوصفها موضوعاً مستقلاً لرصد حياتي مارسه الفنان وعايشه. فمن مصر زمن المؤسسين الكبار أمثال محمد ناجي ورمسيس يونان وعياد وعشرات غيرهم، إلى عراق جواد سليم وفائق حسن وعطا صبري وشاكر حسن آل سعيد وغيرهم، ثم وصولاً إلى لبنان جبران خليل جبران وخليل الصليبي وداود القرم وولده جورج القرم ومصطفى فروخ وعمر الآنسي وقيصر الجميل وصولاً إلى الجيل الأكاديمي الثاني امثال عارف الريس، ورفيق شرف وبول غير اغوسيان وغيرهم.إننا لا نستطيع أن نلتقط كل النماذج التي ترسم بالأسود على الابيض بل بإمكاننا أن نتحدث عن تيار تشكيلي شبه مستقل يقدم لوحة الاسود على الابيض بوصفها العمل الفني المتكامل. وهو كما قلنا يحتاج إلى قراءات نقدية ذات وعي استثنائي، ولكن ما هو اهم من هذه القراءات النقدية هو أن يتقدم المتحف أو المؤسسة لإقامة بينالة الاسود على الابيض. وهذا ما ندعو متحف الشارقة بالذات الى أن يقدم عليه، لأنه سوف يفتح بذلك افاقاً كبرى أمام هذه اللوحة. وبالمناسبة فنحن لا نتحدث هنا عن لوحة الغرافير أو لوحة (السلك سكرين) أو حتى لوحة المونو، بل نتحدث عن لوحة رسمت بالحبر الصيني أو بأي لون اسود كالفحم والقلم الرصاص وما شابه.إن هذه اللوحة هي عمل تكويني دال على وجود مشروع فني يقف وراءه فنان يدرك الأبعاد التشكيلية للعمل، لذلك ندعو إلى مناقشته بشكل معمق اسوة بما نناقشه من مواضيع فنية.أما شروط اللوحة التي يجب اشراكها في مثل هذه البينالة المقترحة فهي ما يلي: تحديد للمادة السوداء التي نفذ بها العمل وهي كما يجب أن يطلب إما بالحبر الصيني او بالقلم الرصاص بدرجاته المتعددة أو بالفيزون الفحم أو بالاكريلك الاسود أو حتى بمادة الزيت السوداء.المسطح الذي يجب أن ترسم عليه اللوحة يجب أن يمتاز بالثبات والأزلية وهو إما ورق كونسوم محضر أو خشب محضر أو جلد مدبوغ بالأسود.لا يحق لنا أن نتدخل بأسلوبية العمل المنفذ بالاسود والابيض بل نقترح أن يكون الموضوع قصدياً بمعنى أننا نقصد بناء لوحة متكاملة بالاسود والابيض.أن تجهز اللوحة المنجزة تجهيزاً كاملاً وتحفظ كما تحفظ اللوحات الاسود على الابيض بالزجاج العازل او ببعض المواد الشفافة التي ترش فوق اللوحة.أن يرافق هذه البينالة لقاء نقدي موسع حول تأريخ لوحة الاسود والابيض ليس بوصفها لوحة بعد ثان، بل بوصفها اللوحة التي رسمت حدود الاشكال الطبيعية.يمكن توسيع هذه البينالة وتصنيفها إلى مدارس تاريخية لعبت فيها لوحة الزيح دوراً تدوينياً مهماً على صعيد الذاكرة البصرية.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"