مؤسسة من مثقف واحد

13:22 مساء
قراءة دقيقتين

كيف أمكن لمثقف عربي عاش في الولايات المتحدة أن يمارس سلطة معرفية على نطاق عالمي، بحيث أصبح واحداً من أكثر كتبه شهرة رادعاً فكرياً وأخلاقياً للغربيين الذين يتناولون قضايا عربية من زوايا استشراقية؟

لقد رحل ادوارد سعيد في خريف عربي شمل أوراق الشجر وأوراق الكتابة معاً، وآخر ما سمعته منه قبيل احتلال العراق في الجامعة الأمريكية بالقاهرة كان أشبه بالنذير لأن الأفق العربي كان ملبداً بأسئلة وعلامات استفهام وتعجب تضع المثقف في اختبار عسير.

والمثال الذي ذكرنا بإدوارد سعيد رغم أنه ليس بحاجة الى مناسبة للاستذكار، هو ما كتبه اليس غولدبرغ عن مذبحة طائفية حدثت في أبو قرقاص قريباً من مدينة أسيوط المصرية، يقول إنه اضطر للبحث عن مدخل آخر لدراسته لأن المثقفين الغربيين بدأوا منذ صدور كتاب الاستشراق لادوارد سعيد يحسبون ألف حساب لما يكتبون عن العالم العربي، كي لا يشملهم ما قاله سعيد عن هذه المؤسسة التي طالما اقترنت بل مهدت لحقبة سوداء من الاستعمار.

هكذا يكون لمثقف واحد وأحياناً لكتاب واحد دور يتجاوز المؤسسات التي ينفق عليها الملايين، وتتورط شأن مثيلاتها ببيروقراطية تحولها إلى عبء اقتصادي وتكية تعج بالموظفين العاطلين عن الانتاج!

وما يعترف به غولدبرغ حول نفوذ ادوارد سعيد الثقافي في الغرب، يفتح الباب على مصراعيه أمام سؤال مؤجل، هو هل يفلح المثقف فيما فشلت فيه مؤسسات ودول ودبلوماسية باهظة التكاليف؟

لكن هل يجب على المثقف العربي أن يهاجر ويكتب بالانجليزية أو الفرنسية كي يكون له مثل هذا الصدى؟

إن أهمية ما كتبه غولدبرغ عن حرص مثقفي أمريكا وأوروبا على تناول قضايا وظواهر شرقية بموضوعية وأكاديمية محررة من الأفكار الاستشراقية المسبقة هو إعادة الاعتبار الى الكلام، فالثقافة العربية الآن تنظر باستعلاء وشكوك لا حد لها لمهنة الكتابة، وكأن ما جرى لهذا العالم وما حل به من كوارث كان سببه الأقوال التي تأتي بمثابة بديل للأفعال.

والحقيقة أن القول فعل بالغ النفوذ بمقياس آخر غير هذا المقياس الرائج الذي يحتكم اليه الواقعيون الذين لا يرون المطر في الغيوم الداكنة التي تلبد السماء فوقهم، ولا يتعاملون مع الممكنات لأنها غير مرئية بالعين المجردة.

أليس ما كتبه غولدبرغ عينة أخرى تفسر لنا الحملة المضادة لادوارد سعيد والتي قادها برنارد لويس وآخرون ممن ينتسبون الى فلول الاستشراق ورواسب الكولونيالية.

إنها اذن مناسبة مزدوجة، ليس لاستذكار سعيد فقط، فهو حاضر بقوة من خلال تراثه المعرفي، بل لإعادة الاعتبار الى الكلمة المشكوك في جدواها، والتي أصبحت ممنوعة من الصرف لأن هناك من أقاموا عازلاً مسلحاً بينها وبين قابليتها للترجمة، لا بمعنى نقلها من لغة الى أخرى بل بالمعنى الدقيق لترجمتها ميدانياً من اقوال الى أفعال.

أليس من حقنا أخيراً أن نرى في مثقف واحد ما يفوق عدة مؤسسات تعج بالتنابلة ممن يعدون الأيام بانتظار الرواتب في أواخر الشهور؟

منصور

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"