"واتل عليهم نبأ ابني آدم"

02:09 صباحا
قراءة 7 دقائق
يأمرنا الله تعالى أن ننظر كيف بدأ الخلق، وبأن نسير في الأرض.. ونرصد أطوار المعرفة وتطور العلم عبر التاريخ الإنساني.قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير، (العنكبوت: 20).النهاية الحتمية للصراع الأخوي بين ابني آدم كانت لصالح الاستراتيجية السلمية في مقابل استراتيجية العنف، وذلك بالتشريع الإنساني الرائع الذي يراعي المحافظة على النفس الإنسانية أيا كانت هذه النفس، وأيا كانت توجهاتها ومذاهبها.من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.في قصة ابني آدم يضع القرآن الكريم الإنسان أمام خيارين أحدهما خيار العنف والصراع والغرور بمصدر القوة بصفتها حلا ممكنا لإنهاء القضايا العالقة. والخيار الثاني: هو الحل السلمي الواسع الأفق، والضارب في أعماق المستقبل. هذا الحل الذي يحتاج إلى نفس تقية تؤمن بعدالة قضيتها دون أن تحتاج إلى من يدافع عنها، أو يحمل سلاحا تتلطخ به دماء الأبرياء: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين، واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، (النحل: 126 - 128).الحل السلمييقول تعالى: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، (المائدة 27- 32).إن القصة القرآنية تعتمد وفقا لمنظورها الإنساني المتعالي عن رؤية الذات الضيقة، على إبراز قضية مهمة يمكن أن يصطلح عليها بالتعبير المعاصر استراتيجية الحل السلمي في معالجة الخلافات والصراعات، سواء كانت ثنائية كما جسدها أنموذج ابني آدم، أو بين جماعتين عبر التاريخ الإنساني الطويل. هذه الاستراتيجية التي تحدثت عنها الآيات، تسعى لترسيخ مبدأ السلم والسلام باعتباره مبدأ إيجابيا يرسخ في النفس الإنسانية ثقافة السلم، لا بالمنظور السلبي الذي يرى في مثل هذه السلوكيات والتصرفات نوعا من الاستسلام لقوة الطرف الآخر، وضربا من العجز الفكري والجسدي على المقاومة المشروعة.كما تبرز الآيات بشكل واضح طبيعة النفس الإنسانية، وتسويلها قتل الآخر بشكل تعسفي دون ذنب فطوعت له نفسه قتل أخيه.. هذه النفس المجبولة على الصراع والصدام، والمتمثلة في قابيل أول قاتل في التاريخ البشري ترى أن القوة تكون دائما مسلكا إيجابيا لجلب الحقوق أو دفع الضرر، دون الاكتراث بما قد تؤول إليه عواقب الأمور.سنن المسار الإنسانيإن القصة القرآنية تحتل مكانة رئيسية في النسق العلمي للحياة الإسلامية بوجه عام فبها يتم التنظير والتطبيق على حياة الفرد وفق الأهداف والأنموذج المقدم داخل هذه القصص. وبها يتم تقديم السنن والقوانين، التي تحكم المسار الإنساني في الجوانب المختلفة من حياة الإنسان. ناهيك عن الدور التربوي والشعوري، لما تختزله هذه النماذج من أسرار وعبر وحكم، لها مع غيرها دور أساسي في نقل التجارب الحية لأنها الأرضية التي ينطلق منها ليعرض تصوراته وعقائده ومنظوره للوجود والطبيعة والإنسان...كما كانت القصة تخدم بشكل أو بآخر المنظومة الفكرية للواقع، الذي أنزل إليه الدين بلسان القوم وبثقافتهم وخصوصياتهم. إن هابيل القتيل كان يؤمن بعدالة قضيته ولو كان نتيجة هذا الإيمان أن يضع حدا لحياته. فإيمانه نابع من رؤية إنسانية تستهدف ضرب الأسس التي يقوم عليها العنف باعتباره حلا لقضايا خلافية مع أشقائه.. واليوم أمسى العنف خبزاً يومياً للإنسان المعاصر. فهل هذا العنف جزء من الطبيعة الإنسانية؟ هل هو فطرة كامنة في أصوله الغريزية؟ لقد تضاربت الآراءُ حول أصول العنف، بين قائلين بغريزية العنف (لورنتس) وبين قائلين بأنه صفة مكتسبة (سكينر). وتعود جذور هاتين النظريتين إلى الخلاف بين المنظرين والعلماء منذ عصر النهضة، ثم إلى الخلاف بين المناهج التقدمية، التي كانت تقول إن الرذيلة نتاج للظروف الاجتماعية، وبين المناهج المحافظة، التي حاولت أن تثبت أن التنافس بين البشر يعود إلى غريزة متأصلة لصالح كمون العنف في أعماقهم. إلا أنه في بداية القرن الفائت تم التوصل، عبر منجزات التحليل النفسي الفردي (فرويد) وعلم النفس التحليلي التجريبي (يونغ وفروم)، إلى حسم الصراع، ليَثبُت، بالتجربة، أن العنف ينقسم إلى نوعين: العنف الدفاعي: ويشترك فيه الإنسان والحيوان، وهو عنف غريزي يهدف إلى الحفاظ على النوع، والنوع الآخر العنف الخبيث (حب الإفناء) وهو عنف يختص به الجنس البشري، وتندرج فيه السادية وحب الموت والتدمير. وهذا النوع من العنف مكتسب حتمًا، إذ من الممكن إثارته، والتأثير فيه، سلبًا أو إيجابًا، بواسطة العوامل الثقافية. العنف الاجتماعيويتفق الباحثون على أن العنف الاجتماعي يتخذ أشكالاً متنوعة، مباشرة وغير مباشرة، خفية ومعلنة، لكن المؤكد أن العدوان الخارجي ليس مسوغاً لثقافة العنف، بل إن ثقافة العنف داخل المجتمع هي تأسيس للهزيمة أمام العدوان الخارجي. فلقد حان الوقت كي نتنبه إلى أن التنمية ليست مجرد تنمية للأرقام، بل هي، أولاً وأخيرًا، تنمية للإنسان. إذ يضاف العنف الإنساني، في مجتمعاتنا العربية، إلى تعنيف الطبيعة وقهرها، حيث تقوم ثقافة العنف على منظومة فكرية مركزية عقائدية وأخلاقية تستند إليها. إن الكائنات الحية توجت بالإنسان الكائن المبدع الذي نُفِخ فيه من روح الله واستخلف في الأرض ليقضي على الفساد وسفك الدماء. ولكن أبدع ما وصل إليه هذا الإنسان في تاريخه بأن توج أعماله بابتكار أدوات الحضارة التي من أهم مظاهرها حرية الإنسان في اختيار طبيعة حياته الاجتماعية وطريقة معيشته.ونحن ما زلنا نفكّر في الكيفية التي يتسلل بها العنف إلى حياتنا ويعيث فيها فساداً، حيث على مدار التاريخ الإنساني لم يسلم شعب من الممارسات العنيفة سواء عبر الحروب، أو من خلال الاستعباد والإكراه، ولكن إذا كان العنف لا يزال حاضراً بعد ملايين السنين من وجود الإنسان فوق الأرض، فمتى إذن يمكن للإنسان الساعي لتعميرها أن يتخلّص من معاناته، وهل ثمة مستقبل قريب تودّع فيه البشرية هذا الشكل اللاإنساني من الممارسة أو العلاقة ما بين الإنسان وأخيه الإنسان، أو ما بين قوم وقوم أو دين ودين؟ مع الأسف ما زال العنف يجدد نفسه بأشكال لا حصر لها، ولكنه من حيث الجوهر يبقى كما هو، الاعتماد على ثقافة القوة والسعي لإبادة الآخر بدعوى الاختلاف. منهج الأنبياءلقد تحمل آدم عليه السلام وزوجه مسؤولية وأمانة المعرفة وربط الأسباب بالنتائج والاعتراف بالخطأ الذي هو بداية طريق التغيير والإصلاح والنقد الذاتي ويعني هذا التوبة بالمصطلح الديني عوضا عن إلقاء التبعة على إغواء الشيطان وتسويغ الخطأ بأمور خارجية.. وتأصل هذا بموقف ابن آدم هابيل في نزاع أخيه معه في رفض اللجوء إلى رد العنف بالعنف حيث كان هذا إيذانا بأن الانسان قابل للمعرفة والاستفادة من الخطأ وكيفية حل المشكلة بالحسنى.كأنه يعلن قائلاً: إنني خلق جديد ومزود بقابلية اكتساب المعرفة من التاريخ ونقل هذه المعرفة بالحوار وتأمل الوقائع وتحليلها وليس باللجوء إلى العنف والتدمير... ووجدت بذلك فرصة التطور إلى الأفضل والزيادة في الخلق وبقاء الأنفع والأصلح.الأنبياء جميعا كانوا مثل ابن آدم الذي رفض العنف بكل الوسائل وقبل التحدي، تحدي العنف الصارخ باللاعنف المبين..وبعد موقف ابن آدم المتحدي للعنف باللاعنف الفردي، يأتي نوح فيعاني معاناة شديدة ولمدة طويلة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً إن ابن آدم كان يريد أن يثبت ذاته ولكن نوحا كان يريد أن يصنع ملة جديدة ومجتمعا جديدا لهذا كانت معاناته أشد وكما أوحى الحق إلى محمد صلى الله عليه وسلم قصة ابني آدم بقوله تعالى: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق كذلك أمره أن يتلو علينا نبأ نوح فقال: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر، (يونس 71-72).نبأ ابني آدم.. فرد يحاور فردا ولكن نبأ نوح فرد مع أتباعه يحاور أمة ويجدد ملة ومشروع مجتمع جديد في رحم الغيب..ويأمر الله نبيه محمدا (صلى الله عليه وسلم) أن يتلو علينا نبأ إبراهيم: واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين، (الشعراء 69-71).وهو الذي حاور أباه وقومه والنمرود الذي آتاه الله الملك، وقال: إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له اسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب إنه هاجر وقطع الفيافي ما بين دجلة والنيل.. (..وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين).ويعلمنا القرآن العظيم انها سنة الله في خلقه: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، (النحل: 36)قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، (يونس: 101).
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"