الإلهام منصة إطلاق اللحظة الإبداعية

يرتبط مفهوم الالهام بالنشاط الابداعي عادة،أي في النتاج الشعري والتشكيلي والموسيقي على وجه الخصوص، وهناك من تأمل الالهام على نحو نظري فكري واعتبره مصطلحا تقاس عليه قراءة النص وتفحص به موهبة الكاتب نفسه.

وتبدو هنا كما لو ان شرارة النص الشعري أو مخاض اللوحة التشكيلية هي بالذات تلك اللحظة الالهامية التي تقود المبدع الى تكوين مادته الفنية منذ نقطة الصفر واشباعها بالكثير من التداعيات والمفردات الغنية اللاحقة.

في الفن على سبيل المثال كانت مثل هذه الشرارة بالنسبة الى الرسام بيكاسو متمثلة في القصف الالماني الجوي لمدينة غرنيكا الاسبانية في العام ،1937 ما ألهمه انجاز واحدة من اعظم الاعمال التشكيلية في تاريخ الفن الحديث وهي لوحة غرنيكا.

في الشعر عادة ما تكون المرأة هي المرسل الالهامي المباشر الى كيان الشاعر أو الرسام أو الموسيقي ، لكن المرأة ليست دائما مركزاً ملهماً على طول الخط، فالارض، الوطن، بل حتى الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين من شأنها ايجاد هذا الحافز الالهامي، ففي العام 1779 وقعت كارثة زلزال لشبونة التي ألهمت فولتير قصيدته الشهيرة كارثة لشبونة.

ونازك الملائكة كتبت قصيدة الكوليرا في النصف الاول من القرن العشرين بالهام من رعب وفجائعية هذا الوباء.

وفي العلم كانت تفاحة اينشتاين التي سقطت فجأة من الشجرة ملهمته المباشرة الى قانون الجاذبية.

في هذا التحقيق نطالع حزمة آراء ووجهات نظر من شعراء وكتّاب وتشكيليين حول مفهوم أو معنى الالهام في الابداع:

يقول الناقد د. صالح هويدي فكرة الالهام فكرة قديمة عند اغلب مجتمعات العالم، منها بلاد الاغريق، حيث تم ربط الشعر بآلهة الاولمب، وكذلك عرف التراث الادبي العربي القديم الالهام حين ربطوه ب (وادي عبقر) وتابع هويدي بعد منتصف القرن التاسع عشر ظهر الالهام على يدي الرومانتيكيين بصورة اكثر نضجاً واكتمالاً فلسفياً، فكان الشاعر هو الفيلسوف وهو المتنبئ الذي يفيض عنه الشعر فيضا، ولعل هذا ما جعل الشاعر يرتبط بكونه يأتي عملاً معجزاً أو ساحراً.

ورأى د. هويدي ان فكرة الالهام قد بدأت تتراجع في الفكر النقدي المعاصر ليصبح الشعر معبرا عن وعي منضبط وواع ، ومع ذلك فلم يخل الامر من منطقة تنسب الى الحدس مرة والى الغموض مرة ثانية، وذلك بحسب د هويدي يعود الى ما تنطوي عليه الفعالية الشعرية وحال الشاعر من اهمية كبرى، كما ان كثيرا من الافكار التي في قصيدة الشاعر لا يمكن فهمها فهما كاملا ، والشعر اذا تجاوزنا الالهام هو كيمياء تحدث في عقل الشاعر، وقد لا نجد تفسيرا لها. واعتبر د. هويدي ان الالهام ليس مقصورا على الشعر، فقد يحدث للمعماري أو التشكيلي أو العالم الطبيعي الذي قد يشطح فكره لقاء حدس ما ليسجل كشفا أو تخطيطا لابداع لم يسبق لاحد ان قدمه.

ورأى الشاعر عبدالله عبد الوهاب ان فكرة الالهام سادت اكثر من أي وقت في الفترة الرومانسية في ابداعات عدد من الشعراء الاوروبيين على

غرار ملتون وجون كيتس والفرد فيني وهناك شاعر لاتيني قديم يقول ليس هناك ما يمكن ان يمس انسانية الانسان يمكن يكون غريبا عن اهتمامي بما يشير الى غلبة الوجدان وتأثير ذلك في الانسان، والمبدع هنا بحسب عبدالوهاب هو اكثر كائن تتجلى فيه غلبة الوجداني الذي يظهر في صورة ابداعات مختلفة، واكد عبدالله ان العصر الراهن قد نحّى الى حد ما مسألة الالهام لمصلحة العقل الذي يتجلى في صورة ابداعات كثيرة مثل الومضة الشعرية واللوحة التشكيلية السيريالية وغيرها من الابداعات.

من جانبه اكد الشاعر جمال علي على حتمية الالهام وتأثر الانسان به، على وجه الخصوص المبدع ايا كان تخصصه وقال هو علاقة لا يمكن القبض عليها وترتبط بالعلاقة الشائكة ما بين الوجدان والعقل الواعي وغير الواعي، وقد تجد تفسيرها في صورة نتاج ابداعي على شكل نص شعري أو أي نتاج ادبي أو فني.

الشاعر سعد جمعة اكد على ضرورة الالهام في الابداع وقال الالهام ما يزال إحدى ادوات الكتابة لدى الشاعر، الذي قد تنحسر التجربة عنده لفترات طويلة، ثم سرعان ما تنطلق ليجد المبدع نفسه وقد انتج نصا طويلا، وتابع جمعة الالهام هو (فلتر) مخزون التجربة الانسانية، في صورة نتاج ابداعي استثنائي، ويتفق جمعة مع العديد من المبدعين في صعوبة ايجاد تفسير للالهام، باستثناء ما اتفق على اعتباره مرتبطا بالوعي واللاوعي وذلك الحدس الذي تنجم عنه افكار وتصورات تعزز من قدرة واهمية المخيلة لدى الانسان.

التشكيلي سهيل بدور الذي اكد على ضرورة الالهام في الابداع بمختلف اشكاله قال الالهام هو ذكرى منصة انطلاق الفنان، ذلك الكائن الذي يستطيع ان ينتج شيئا من العدم، أو هو ذلك البطل المثالي في عالم شديد الحساسية وبالتالي فان الالهام يعتبر امرا حيويا بالنسبة للفنان على وجه الخصوص، ذلك المعني بتحويل المجهول الى حدس فلسفي أو رؤيوي، كما ان الالهام لحظة يتحرر فيها الفنان لينتج عملاً ابداعياً متميزاً.