عادي
تهاجم النبات والإنسان والحيوان

الفطريات القاتلة أخطر الكائنات

03:29 صباحا
قراءة 8 دقائق

يقول علماء البيئة والأحياء إن الطفيليات اللامرئية تهدد عشرات الأنواع الحيوانية والنباتية في العالم وإذا لم يتمكن الإنسان الذي أسهم إلى حد كبير في انتشارها من مواجهتها فإنه سيكون أمام كارثة بيئية حقيقية في المستقبل، هذه النتيجة توصل إليها باحثون أمريكيون في الآونة الأخيرة بعد أن لاحظوا نفوق عدد كبير من الضفادع في المستنقعات والأنهار، فضلاً عن نفوق مئات الخفافيش على مساحات شاسعة من الأراضي الأمريكية، وموت أعداد هائلة من أشجار الموز هنا وهناك، ومنذ نهاية القرن العشرين لاحظ الباحثون الأمريكيون أن ثمة مجموعات قاتلة تعمل في الخفاء وتقضي بشكل منظم على آلاف النباتات والحيوانات، وعندما أجرى الباحثون دراساتهم المفصلة لمعرفة من وراء هذه الكارثة البيئية، وجدوا أنها الفطريات، وبالطبع ليس المقصود هنا الفطر الذي نجمعه لنأكله من الغابات أو الصحارى التي ينبت فيها بعد سقوط المطر ولكن الفطريات هنا هي تلك الكائنات التي تصيب الكائنات الحية بالعدوى الفطرية من مصادر مختلفة، وكان العلماء يعتقدون أن هذه الطفيليات هي أقل خطراً من كائنات أخرى ناقلة للأمراض مثل البكتيريا والفيروسات لكنهم كانوا مخطئين في تقديرهم فالفطريات يمكن أن تصبح من أخطر الكائنات القاتلة خلال القرن الواحد والعشرين .

الجدير بالذكر أن الفطريات هي كائنات حية ثالوسية (كائنات لاوعائية أي لا يوجد لها جذور ولاسيقان ولا أوراق حقيقية) تنتشر فى الأوساط المختلفة فى التربة الرطبة والجافة وفى المياه العذبة والمالحة وفى الهواء ويهاجم الكثير منها النبات والحيوان والإنسان كما يستعمل بعضها كغذاء وتعتبر من الكائنات الدقيقة الخالية من الكلوروفيل، كما أن لها جداراً خلوياً صلباً يحدد شكلها ما عدا الفطريات المخاطية وهي عادة عديمة الحركة ولكن لها خلايا تناسلية متحركة .

ومنذ ما يقارب الخمس عشرة سنة كان الباحثون يرون أن الفطريات ليست مسؤولة إلا عن 1% من الأمراض المعدية الناشئة مثل الحمى الصفراء وحمى الضنك وحمى الوادي المتصدع لكن هذا الرقم اليوم تضاعف إلى سبع مرات! فعندما يختفي نوع حيواني أو نباتي من منطقة ما من العالم أو ينقرض كليا جراء حدوث عدوى فإن 65% من الحالات يكون سببها فطر من الفطريات القاتلة، ويشير الباحث ماثيو فيشر من كلية لندن الملكية إلى أن عدد الحالات المنقرضة التي يعود سببها إلى هذه الطفيليات يمكن أن يكون أكبر مما يعتقد .

ويرى الباحث أن السبب وراء ذلك يرجع إلى ازدياد الأسفار والتبادلات التجارية ونقل البضائع بين بلدان العالم الأمر الذي يعرض سكان الأرض برمتهم وكذلك بقية الكائنات إلى العدوى الفطرية، وبالتالي زيادة انتشارها دون أن يأخذوا ذلك على محمل الجد، علماً أن عددا من هذه الفطريات شديد الخطورة .

ويقول الباحث ديرك شميلر إن آلاف الفطريات الجديدة وصلت إلى أوروبا منذ خمسينات القرن الماضي عن طريق الطائرات أو السفن ولذا بدأنا نلاحظ هذا القتل الخفي الذي يظهر هنا وهناك دون أن نعرف له سبب في بداية الأمر في العديد من المناطق التي لم يكن فيها وجود لهذه الفطريات بل لوحظ أن ضحايا هذه الكارثة كانوا غير محصنين بدفاعات حيوية، ففي العام ،2007 اكتشف الباحثون في مدينة نيويورك خفافيش بنية اللون تعاني آفة غريبة حيث لوحظ أن مَخاطِمها مغطاة بمسحوق أبيض وبدأت تتهاوى بالآلاف بسبب الآفة التي ألمت بها ولذا أطلق الباحثون على هذا المرض مُتَلاَزِمَة الأنف الأبيض، ومن حسن الحظ أن الباحثين عثروا على العلة المسببة لهذه الآفة والتي كانت بالطبع أحد الفطريات المسماة Geomyces destructans أو (معايش برودي) أي المحبة للبرد وهي صفة الكائن الحي الذي ينمو بشكل مثالي في درجات حرارة منخفضة كما في بعض انواع البكتيريا والطحالب، وعندما أجرى العلماء دراسة مفصلة تبعا لهذه الآفة على مدى خمس سنوات وجدوا أن 7 .5 مليون خفاش تنتمي لستة أنواع مختلفة وقعت تحت الهجوم القاتل لهذا الفطر المدمر، فقد لوحظ بشكل خاص أن ثلاثة أرباع مستعمرات الخفافيش التي تقطن في الكهوف التي مسها هذا المرض قد اختفت إلى درجة أن الخفاش البني يواجه اليوم خطر الانقراض الكلي، ولو استمر الوضع على ما هو عليه فإنه سيختفي تماماً من الخريطة الأمريكية خلال 15 سنة على الأكثر بل إن الخطر يمكن أن يمس أنواعا أخرى من الحيوانات والنباتات في العالم لأن فطر Geomyces destructans ليس هو المعني الوحيد في عملية القتل الخفي بل ثمة أنواع أخرى تهاجم بيض السلاحف البحرية والمرجان والحَيةُ الصلالَة (ذات الجرس) وكذلك النحل .

آفة شاملة

ما من شك أن عالم النباتات ليس في مأمن من هذه الفطريات بل تدفع هي وحيوانات أخرى أيضاً ثمناً باهظاً جداً فشجر الموز والدلب (جنس من الأشجار المعمرة متساقطة الأوراق، يتبع الفصيلة الدلبية Platanaceae والبلوط وكذلك الذرة والقمح والرز كلها تتعرض لخطر محدق هو الفطريات، أما في عالم الحيوانات فيبدو أن البرمائيات (الضفادع) هي التي

تتعرض لأكبر انتكاسة جراء اصابتها بفطر قاتل هو Batrachochytrium dendrobatidis حيث أصاب هذا الفطر الضفادع وبخاصة العلجوم (ذكر الضفدع) والسمَنْدَر (حيوان من الضّفدعيات) في القارات الخمس بل إن هذا الفطر استوطن في 45 بلداً في العالم ويصيب أكثر من 500 نوع بين حيوانات ونباتات! إلى درجة أن الباحثين يقولون إن كل المستنقعات والبرك في العالم بأسره قد أصيبت بعدوى هذا الفطر، وهو ما تسبب في موت 40% من الضفدعيات في منطقة أمريكا الوسطى خاصة أن هذه الكائنات تعاني الوهن جراء التلوث البيئي وتغير المناخ، ومنذ العام 1999 تمت مواجهة هذا الفطر الخطير وهو في ذروة قوته التدميرية حين اجتاح ضفادع إسبانيا بالقرب من مدريد، لكن يبدو أن هذا الفطر كان يكمن ويعمل في الخفاء منذ وقت طويل، فقد لوحظ في ثمانينات القرن الماضي حدوث موجات من نفوق الضفادع ولكن لم يعرف الباحثون السبب الكامن وراءها، وقد صنف الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة هذا الأمر حينها ضمن خانة (الارْتِكاس الغامض) إلى أن تمت دراسة ضحايا هذا الفطر عن كثب بعد أن تم حفظها في المتاحف العلمية، ريثما يجد الباحثون السبب الكامن وراء موتها . المثير في الأمر أن الباحثين عثروا على هذا الفطر لدى ضفادع محفوظة في مختبرات المتاحف منذ العام 1928م وهذا يعني أنه انتشر على مدى القرن العشرين في العالم بأكمله دون أن ينتبه أحد إليه!

ولكن في نهاية المطاف كيف استطاع كائن حيوي بهذا الحجم الصغير جداً أن ينتشر على كل القارات وهو لا يتحمل بالكاد ملوحة مياه المحيطات؟!

الأمر بسيط فكل ذلك يرجع إلى شريك متواطىء بشكل لا إرادي يتمثل في الضفدع الإفريقي ذي المخالب،

(Xenopus laevis) الذي يعيش أصلاً في جنوب إفريقيا فحتى ستينات القرن الماضي كان هذا الضفدع يستخدم من قبل الأطباء في اختبارات الحمل المتنقل إذ كان يكفي أن يتم حقن الإناث من هذا الضفدع ببول المرأة كي يتم التأكد من حملها أم لا! وكانت هرمونات الحمل عند النساء تحدث عند حقنها بهذا الضفدع إنضاجاً للبويضات بحيث أن أنثى الضفدع تفقس بويضاتها بعد 12 ساعة! هذا الاختبار الغريب للحمل تم التخلي عنه لكن الضفدع الإفريقي ذي المخالب بقي الحيوان المفضل للعلماء لإجراء اختباراتهم وأبحاثهم لأنه يتكاثر بسهولة بالغة وبالتالي تم تبنيه من قبل كل مختبرات العالم تقريباً لأغراض الأبحاث إلا أن هذا الأمر كان له جوانب سلبية حيث استطاع الضفدع بطريقة ما الوصول إلى المستنقعات والبرك في كل مكان على الكرة الأرضية حاملاً معه فطره الطفيلي .

هذا الضفدع ليس الوحيد المسؤول عن هذه المشكلة وإنما ثمة ضفدع آخر يسمى الضفدع الثور المشهور بوركيه اللذيذين حيث تسببت تربيته لأجل هذا الغرض في عبوره مناطق كثيرة في العالم وبالتالي نقله للفطر Batrachochytrium dendrobatidis إلى كل أنحاء العالم .

محاولة الباحثين تتبع خط سير هذا الفطر الخطير جعلتهم يكتشفون أنه كان نتيجة لتلاقح نوعين آخرين أقل خطورة منه بمعنى أن الأجيال التالية من الفطر التي تلاقت ثم تكاثرت مع الأيام أدت إلى ولادة هذا الفطر البسيط والخطير الذي بدأ بقتل حامليه الأوائل ثم انتقل إلى أنواع أخرى من الكائنات الحية!

المسألة المخيفة في هذا الأمر هو أن الإنسان أسهم بنفسه إلى حد ما في نشأة هذا الفطر ونشره . وبما أن المصائب لا تأتي فرادى، فإنه من المحتمل أن تكون أنواع أخرى من الفطريات تسير في الوجهة نفسها من دون أن يدري أحد بها إلابعد فوات الأوان ولا سيما أن المرشحين للقيام بهذا العمل ليسوا قلة وإنما يصل عدد أنواع الفطريات المعروفة إلى 70 ألف نوع حتى الآن! علماً أن العلماء يقدرون عددها ما بين 5 .1 - 5 ملايين نوع! ما يعني أنه من المحتمل أن يظهر قاتل جديد أو قاتلين على الأقل من بين هذا العدد الهائل في السنوات المقبلة!

وأمام هذا الخطر المدلهم فكر العلماء باستخدام مضادات الفطريات المشابهة للمضادات الحيوية عند الإنسان لكنهم لاحظوا أن الأمر يسير على ما يرام بالنسبة للفطر Batrachochytrium dendrobatidis لكنه يؤثر سلباً في الضفادع كما يؤثر فطر Geomyces destructans في الخفافيش فيما لو فكر الباحثون برش الكهوف ما بين فترتي بيات شتوي حيث من الممكن القضاء على النظام البيئي للمغارات، فضلاً عن ذلك وجد الباحثون أن استنبات الأنواع الخطرة من الفطريات في المختبر لدراستها عن كثب أمر صعب جداً لكن الأحث دريك شميلر يرى أن الوقاية من الفطر ممكنة إذا ما تم استخدام الطرق المثلى لذلك كتنظيف المواد والمياه التي تتلامس مع الضفادع التي تتم تربيتها في الأحواض، أما بالنسبة للخفافيش فقد تم تشييد أول كهف اصطناعي لاستقبال التجمعات السليمة منها لجعلها في منأى عن المسحوق الأبيض الذي يفتك بها لكن هذا الحل مكلف جداً ولن يقضي بالطبع على هذه الآفة التي تنال من الخفافيش .

وهنا يقول العلماء انه لابد من القضاء على المشكلة من جذورها بالعمل على الحد من عمليات انتقال الفطريات بين القارات علماً أن الأمر ليس بسيطاً إلى هذه الدرجة لأن الفطريات تعبر الحدود بخلسة لا تضاهى لأنها تختفي في كل ما نتخيله وما لا نتخيله كيف لا وهي غير مرئية تقريباً! بل إنه من الصعب معرفة ما إذا كان هذا الضفدع أو ذاك يحمل هذا الفطر أو ذاك لأن الفطر يدخل بعمق تحت جلد الضفدع وبالتالي فإنه من المستحيل أن يتمكن رجال الجمارك من اكتشاف فطر مثل Batrachochytrium dendrobatidis بشكل مؤكد!

ولكن هل يعني ذلك أن نقف مكتوفي اليدين؟

الواقع أن الحيوانات ذات الدم الحار تستطيع المقاومة لأن أغلبية الفطريات لا تتمكن من النمو في بيئة عالية الحرارة لكن الحيوانات ذات الدم البارد كالضفادع هي التي تواجه المشكلة أو تلك الحيوانات التي تهبط درجة حرارة أجسامها مثل الخفافيش في أثناء البيات الشتوي علماً أنها تتعلم مع الوقت كيف تدافع عن نفسها إزاء طفيليات عنيدة كهذه . ويعتقد العلماء أن الأهداف الجديدة التي ستصيبها هذه الفطريات ستكون مضادات مع الوقت كما يمكن مساعدة هذه الأنواع عن طريق إدخال بكتيريا في بيئاتها نعلم مسبقاً أنها ستحمي الضفادع بشكل طبيعي ضد العدوى خاصة أن القضاء على الداء غير ممكن أبداً، ويشير الباحث ديرك إلى أن أفضل طريقة لمواجهة الفطر الجديد هي بالعمل على إيجاد سبل للتعايش بين الفطر ومضيفه وهذا يتطلب إجراء مزيد من الأبحاث العلمية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"