موهبة القراءة

04:26 صباحا
قراءة دقيقتين
صفية الشحي

القراءة ليست هواية أو رفاهية كما يحلو للبعض أن يصنف فعلها، بل لا أبالغ إن قلت إنها موهبة بحد ذاتها تكاد تضاهي موهبة الكتابة، «فقارئ موهوب أهم من كاتب موهوب» كما يشهد عشاق الكتب، وفي عصر يدفع الفرد دفعاً نحو استهلاك طاقته الذهنية في محرقة الأخبار والأحداث والشائعات والإعلانات، لا بد من العودة إلى أصل المعرفة الأول المحفوظ في كلمة «اقرأ»، وعند البعض كمحمود درويش شاعر الحضور الغائب، العذاب كل العذاب هو في ألا يقرأ، وكأنها بدايات كل القراء المشتركة، فهم تعلقوا بالقصص حتى لا يسرقهم «التيه» في بيوتهم آلاف الصفحات مستقراً وأماناً، وفي منافيهم آلاف غيرها، ملاذ وسهر طويل مع القهوة والشعر.
ليس ترفاً أن تقتني كتاباً «ورقاً أو رقماً» وتمنحه من عمرك ساعة، فتلك هي خلطة العظمة الإنسانية التي لا يمكن أن تكتمل دون إصرار وابتكار في الوقت والطريقة التي نقرأ بها، وليست الرواية أو المقال أو القصيدة «تزجية للوقت» الذي قيل إنه «قطاع» للمهملين والمشردين بين المتع الباردة المحشورة في هواتفهم الذكية، بل هي اتزان نحن بأمس الحاجة إليه حين تتقاذفنا أيادي القلق والتوتر الناشئين عن صراعاتنا على المال والشهرة والظهور بكل الأشكال المتاحة.
أول مكتباتنا كانت فقيرة إلا من الهمة، بعضنا كان يقرأ المنسوخ كما فعل درويش، حين اضطره ضيق الحال لنسخ أشعار قباني والسياب والبياتي، والمستعار من مكتبات الأصدقاء والمدارس، ولو حالفنا الحظ لكنا نحتفظ حتى الآن بتلك النسخ من الورق الرخيص المهترئ مخفية عن الأنظار تحت أكوام من الكتب بالقطع العصري والأغلفة الجذابة.
مالذي يحرص قراء اليوم على حمله معهم في حلهم وترحالهم؟ المتنبي، ألف ليلة وليلة أم رسالة الغفران؟ هم قد يحملون ألواحهم الذكية وفيها مئات الكتب، «المجانية» وتلك السمة -كما أرى- هي من طردنا من جنة اللذة المعرفية، حين أصبحت الكتابة مستباحة، والشعر في متناول اليد، والرواية «عداء» في مارثون النشر، والنشر ذاته «أون لاين».
إن بوصلتنا في الحياة لا بد أن ترتبط بفعل إبداعي، والإبداع لا يمكن أن يتشكل في رحم التجربة دون بحث وتنقيب وصبر على ألم الرحلة الطويلة التي نقضيها طارحين أسئلتنا الوجودية، ومرتدين عن يقين إجاباتها إلى أول الطريق، وحين نسأل ما الجدوى؟ تبرز أمامنا كل تلك القامات التي ننظر لها بارتعاش تلميذ أمام معلمه، لا قامة تولد على سطح فارغ، كلهم تنجبهم الحقيقة القابلة لعشرات التفاسير، كلهم يخوضون بجهرية هي أقرب للسرية، تجعلنا نعيش الدهشة المفقودة في معظم ما تطرحه الأسواق اليوم، فالقراءة إذن هي أشبه بغرس بذرة في تربة الروح، نرويها بوعينا الذي يكبر مع العمر والتجربة، منتظرين أن تشق طريقها إلى سطح الشخصية، وتثمر لغة وقيمة ومعنى، ولذلك وحده هي موهبة بكل المقاييس.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/brxhmepp

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"