إنها سُخرية مستسمحة

من يوميات عام «كورونا» (8)
03:38 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

لمكتبتي المنزلية المتواضعة شرفة فسيحة تطل على «حمّام سباحة» صغير، تشدني إليه زرقة الماء فيه، وتموجه، أكثر من رغبة السباحة نفسها، أمشي بين طرفيها، وأظل أطويها جيئة وذهاباً، قبيل ساعة الغروب.
وكم تنساب الخواطر متدفقة أثناء المشي، إلا أن خاطرة اليوم ظلت تلحُ عليَّ طوال الأسابيع الماضية من العزلة الإجبارية، ومنذ أمِرُ الناس، بالبقاء في بيوتهم «خليك بالبيت».
لماذا لا نكتب ما يؤنس ويباسط في زمن حافل بالمضحكات المبكيات، ونخفف من وقع أخبار الحروب والفيروسات، وعكارة ألغاز السياسات الدولية، ونواجه الكآبة بالابتسامة الساخرة؟
ألَحّتْ الخاطرة- على الحاجة- لاستدعاء تفريج ساخر و«مؤدب» من هذه الغمة، ومن هذا الكرب، باعتبار أن السكوت في «خليك.. بالبيت» يصنع الكمد، وبخاصة مع ظاهرة هبوط المستوى الفني للدراما في شهر رمضان، وتعَرّي نظم الرعاية الصحية في عدد كبير من الدول المتقدمة.
نعم، هي خاطرة تدعو للتبسم الساخر، حتى تبدو منا النواجذ، فتتحسن مناعتنا الذاتية، خاصة إذا كانت الضحكة رائقة، والتي تسهم في تعديل النفس حتى لا يلحقها كَلالُ الجد، وذلك هو من حسن الفطنة.
وعلى الرغم من أن مزاج الناس في عام «كورونا»، والحجر المنزلي ليس مضحكاً، لكن حينما هاتفني صديق، وابتدأ بالسؤال: أين أنت الآن؟ انفجرت ضاحكاً. وقلت متهكماً «أنا الآن في خيمة رمضانية عامرة»، ودعوته للمشاركة.
وأمام صمته، أو ربما ذهوله، قلت له: اطمئن، فإن معظم الحاضرين، «تم حقنهم بالمعقمات»، وفقاً لقواعد ونصائح الرئيس الأمريكي ترامب.
تذكرت قول النملة، في القرآن الكريم، «يأيها النمل ادخلوا مساكنكم، لا يحطمنكم سليمان وجنوده، وهم لا يشعرون». وقد سمع عليه السلام، كلام النملة، «فتبسم ضاحكاً».
ومن النافل القول بأن الفيروس القاتل «كورونا» قد هبط على الناس، مع «سبق الإصرار والترصد»، لإيذاء ضحاياه إلى درجة الموت أحياناً، وليس لرسم الابتسامة على شفاه البشر، ولا لتنمية فضاءات الأعمال والاقتصاد والاجتماع.
نعم، «لزمنا بيوتنا» وتوقفت حركة مدن كانت مفعمة بالحياة والحركة والتنوع، واعتصمنا بالصبر والأمل.
السخرية أو التهكم في التعامل مع تداعيات «كورونا» هو من بين آليات شعبية تلقائية لمواجهته من ناحية، والتعبير غير المباشر من ناحية أخرى عن ردود فعل لسياسات دولية فاشلة لم تستطع أن تطور منظومات رعاية صحية ناجحة أو مشتركة.
السخرية في هذه الأيام هي طريقة فعالة للتنفيس عن الضغوط النفسية الناتجة عن القلق، والخوف من المجهول، وتسهم، أيضاً، في ترميم الذات، وحماية الجسد، مثلما اقترح أحد الظرفاء، وضع «التاباسكو» على اليدين، لمنع الناس من ملامسة أنوفهم وأفواههم، فلا تنتقل العدوى إليهم.
ولأن «القلوب إذا كلَّت عميت»، كما تقول العرب، فإن من المرح البريء أن نسمع رجلاً يقول: «لقد لزمنا مساكننا للعزل الصحي، وليس لتصفية الحسابات القديمة أيتها النساء»، ونسمع «أن أفراد الأسرة، صاروا يتنافسون على الخروج لرمي القمامة، بعد أن كانت هذه المهمة، من المهام المنزلية الثقيلة على النفس»، وأن نشاهد شرطياً هندياً، يحمل درعاً مستوحاة من الصورة الشائعة عن الفيروس، ويضع خوذة «كورونا» على الرأس، أثناء منع الناس من التجول في الشوارع.
وكان يقال في أزمنة ما قبل «كورونا»، إن العطس هو رحمة للجسد، باعتباره «عطسة ابن حلال»، وإن لمنع العطاس مخاطر وخيمة على صحة الإنسان، وإذا عطس المرء، فليقل «الحمد لله»، وليقل من يصاحبه «يرحمك الله»، فيرد عليه «يهديكم الله، ويصلح بالكم».
أما في زمن «كورونا»، فالعاطس مدان حتى تثبت «براءته» ولا مجال أمامه ل «التشميت»، وهروب الناس منه.
وهاتفني صديق من مصر، وقال لي: «إن درجة التعقيم في منزلنا تسمح بإجراء عملية قلب مفتوح في المطبخ»، وأبلغني أنه ما عاد رشيقاً، وقد ازداد وزنه، لأنه يتناول وجبة طعام كل ثلاث ساعات، فقلت له: «إذن أنت يا صديقي بخير وعافية، لأن من بين علامات الإصابة بفيروس «كورونا» هو فقدان الشهية و«قرقرة» البطن».
وقد تداول الناس، في شتى أنحاء العالم، النكات والفكاهة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة شعوب عُرفت تاريخياً ب «خفة الدم» وحب الحياة، وتذليل صعابها بالكلمة الناقدة والساخرة.
وستظل القوى العظمى، راعية الأمن والسلام والسلامة، كراعي الغنم، فمنها من يهتم بصوف الخراف، ومنها من يهتم بلحمها فقط، لكن ليس من بينها من يهتم لأمر الخروف نفسه، وبخاصة إذا كان مسناً.
إنها سخرية مستسمحة قد تجيرنا من كرب وهمٍ وضيق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"