«الراكب بالمجان».. فاسد

02:24 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

التهب الوطن العربي منذ شهور مضت، بالانتفاضات الشعبية، ومر، ومازال، بمخاضات صعبة تدفع باتجاه التخبط والفوضى، إن لم تستدرك القوى الحية والمستنيرة في المجتمعات، وتمد حبل النجاة، كي لا تتفكك الدولة الوطنية تحت استفحال النهب والهدر والفساد، وامتهان كرامة الأوطان والإنسان.
التبديد والهدر والفساد تجري من غير ضمير ولا حساب، وتشير تقديرات اقتصادية موثوقة إلى أن تكلفة الفساد في العالم العربي، خلال عقد واحد، بلغت أكثر من تريليون دولار.
الفساد، هدر للموارد، يؤثر سلباً في النمو الاقتصادي، ويعمّق مستويات الفقر، ويرسخ التذمر والحرمان في المجتمعات، وهو متنوع في أشكاله، ويتكاثر ويستفحل في ظل الصفقات والمناقصات والمشروعات، وفي مناخات الاحتكار في إنتاج السلع والخدمات، وتزداد فرص الفساد في النظم والمؤسسات، ذات السلطة المطلقة، والصلاحيات المطلقة، باعتبار القاعدة التي تقول إن «السلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة».
وتقل فرص الفساد من خلال الشفافية والمراقبة والمساءلة، وتعزيز منظومات قانونية وقيمية، تهذب الإنسان وسلوكياته، ومعايير للنزاهة، ومؤسسات للمساءلة فعالة.
لا تقتصر ظواهر الفساد على الدول النامية والهشة والفاشلة والمائعة؛ بل تتعداها إلى دول متقدمة؛ إذ إن لا علاقة للفساد بمدى التطور أو التخلف، بقدر ما له علاقة بأخلاقيات الوظيفة العامة المستمدة من قواعد السلوك الأخلاقي في المجتمع.
ويتجسد الفساد المالي والإداري في مخالفة القوانين والتجاوز عليها، وعلى حقوق الآخرين، والإضرار بالمجتمع، كما يتمثل في إساءة استعمال السلطة الموكلة للمرء، لتحقيق مكاسب شخصية، من خلال الاختلاس والرشوة والابتزاز، والتضليل في وضع البيانات، واستغلال النفوذ والمحسوبية.
الفساد يخلق ثقافته، ويرسخ بيئة مكتنزة بالغش والخداع، والاحتيال والتمييز في العمل والتزوير والمحاباة، والتهرب من المسؤوليات.
ومن أخطر أنواع الفساد، الفساد السياسي، الذي يسيء استخدام السلطة العامة، سواء كانت حكومية أو نقابية أو خاصة، وهناك مصطلح اقتصادي شهير يسمى «الراكب بالمجان» Free Rider
، وهو الإنسان الذي لا يربطه بالشأن العام سوى المصالح والمنافع الخاصة. ومن صفات «الراكب بالمجان» التلوّن «حسب الفصول»، وتبديل المواقف أو حتى السكوت من أجل هذه المصالح الخاصة، من مزايا وعطايا. وقد يكون هذا «الراكب بالمجان» رجل أعمال أو موظفاً أو كاتباً أو صحفياً.
الكاذب والمنافق، وأمثالهما ممن يمارسون شهادة الزور في الأقوال والسلوكيات، لهم منزلة عالية في هرم الفساد. وكذلك التاجر الذي يحلف كذباً بمحاسن سلعته، هو أيضاً يمارس الفساد.
سلوكيات سلبية يمارسها المرء، بدون أن يدري أنها تدلل على أن لديه استعداداً للفساد، وذلك حينما يتخطى الناس في طوابير الانتظار، أو يتجاوز إشارات المرور، أو يستخدم المزيد من المناديل الورقية أو الصابون في المطاعم أو الفنادق، أكثر مما يفعل في منزله، أو يغض البصر أو يصمت عن الفساد... الخ.
أذكر ما قاله ذات يوم أحد الفلاسفة، وربما كان كانط: «شيئان يملآن قلبي دوماً بالإعجاب والخشوع: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في ضميري».
وتحضرني هنا قصة بناء سور الصين العظيم، قبل سبعة قرون من الميلاد، كمشروع دفاعي متكامل، عبر جبال وصحارى وأودية، وعلى امتداد أكثر من سبعة آلاف كم، وقد أضيف هذا السور التاريخي، إلى قائمة التراث العالمي ل «اليونسكو»، ولم يتوقف بناء السور العظيم طوال ألف عام.
والهدف من بناء هذا السور، يكمن في الدفاع العسكري الاستراتيجي ومقاومة الأعداء خارج بوابة أو سور الصين العظيم.
ولم يكن في تلك الأزمنة من يقدر أن يتسلقه لشدة عُلوه، ولكن خلال المئة سنة الأولى بعد بناء السور، تعرضت الصين لعدة غزوات كبرى، وفي كل مرة لم تكن القوة الغازية بحاجة إلى تسلق السور؛ بل كانت في كل مرة، تُغري الحراس بالرشى، فيدخل الغزاة إلى قلب الصين، بيسر كبير.
انشغل الصينيون الأوائل في ذلك الوقت ببناء السور، والمدن الحصينة والدروع الحديدية، ونسوا تعليم الإنسان قيم الأمانة والنزاهة، ففسدت السياسة، وأصاب اليأس والإحباط نفوس الناس.
إن أهم عناصر قوة الأمم تكمن في جودة تعليمها، ونظامها الصحي والقيمي، ونزاهة قضائها، وحسن اختيار قادتها، ومحاربة الفساد على كل مستوى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"