الشفق

القسم الإلهي
03:49 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم. يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.

قال تعالى:«فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ». ورد هذا القسم فى سورة الانشقاق، وهي السورة الثالثة والثمانون في ترتيب نزول السور، والرابعة والثمانون في المصحف الشريف، وهي مكيّة، وآياتها خمس وعشرون آية.

تبدأ السورة ببعض مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضت بتوسع في سورتي «التكوير»، ثم «الانفطار»، ومن قبل في سورة «النبأ»، لكنها هنا ذات طابع خاص، طابع الاستسلام لله، استسلام السماء، واستسلام الأرض في طواعية، وخشوع، ويسر. «إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ»، ذلك المطلع الخاشع الجليل تمهيد لخطاب الإنسان، وإلقاء الخشوع في قلبه لربه، وتذكيره بأمره، وبمصيره الذي هو صائر إليه عنده.

يقول ابن قيم الجوزية في كتابه «التبيان في أقسام القرآن»: أقسم سبحانه بثلاثة أشياء متعلقة بالليل. أحدها، الشفق، وهو في اللغة الحمرة بعد غروب الشمس، إلى وقت صلاة العشاء الآخرة، وكذلك هو في الشرع، قال الفراء، والليث، والزجاج، وغيرهم: الشفق الحمرة في السماء، وأصل موضوع الحرف لرقة الشيء، ومنه شيء لا تماسك له لرقته، ومنه الشفقة وهي الرقة، وأشفق عليه إذا رقّ له. وأهل اللغة يقولون: الشفق بقية ضوء الشمس، وحمرتها. ولهذا كان الصحيح أن الشفق الذي يدخل وقت العشاء الآخرة بغيبوبته هو الحمرة، فإن الحمرة لما كانت بقية ضوء الشمس جعل بقاؤها حداً لوقت المغرب، فإذا ذهبت الحمرة بعدت الشمس عن الأفق، فدخل وقت العشاء، وأما البياض فإنه يمتد وقته بطول لبثه، ويكون حاصلاً مع بعد الشمس عن الأفق، ولهذا صح عن ابن عمر، رضي الله عنهما، أنه قال: الشفق الحمرة.

والعرب تقول: ثوب مصبوغ كأنه الشفق، إذا كان أحمر.

وأيضا قسمه بالليل وما وسق، أي: وما ضم، وحوى، وجمع، والليل وما ضمه، وحواه آية أخرى، والقمر آية، واتساقه آية أخرى، والشفق يتضمن إدبار النهار، وهو آية، وإقبال الليل، وهو آية أخرى، فإن هذا إذا أدبر خلفه الآخر، يتعاقبان لمصالح الخلق، فإدبار النهار آية، وإقبال الليل آية، ولهذا يقسم سبحانه بهذين الوقتين كقوله: «والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر»،(المدثر،33-34)، وهو يقابل إقسامه بالشفق، ونظيره إقسامه ب«والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس»،(التكوير،17-18).

ولما كان الرب تبارك وتعالى، يحدث عن كل واحد من طرفي إقبال الليل والنهار، وإدبارهما ما يحدثه، ويبث من خلقه ما شاء، فينشر الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل، وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النهار، فيحدث هذا الانتشار في العالم أثره- شرع سبحانه في هذين الوقتين الصلاتين العظيمتين، مع ما في ذلك من ذكره عند هاتين الآيتين المتعاقبتين.

وقوله: «لتركبنّ طبقاً عن طبق» الظاهر أنه جواب القسم، ويجوز أن يكون من القسم المحذوف جوابه، و«لتركبن» وما بعده مستأنف.

وقرئ «لتركبنّ» بضم الباء للجمع، وبفتحها، فمن فتحها فالخطاب عنده للإنسان، أي: لتركبن أيها الإنسان، وقيل: هو النبي، صلى الله عليه وسلم، خاصة، وقيل: ليست التاء للخطاب، ولكنها للغيبة، أي لتركبنّ السماء طبقاً عن طبق، ومن ضمها فالخطاب للجماعة ليس إلا، فمن جعل الكناية للسماء، قال: المعنى لتركبنّ السماء حالاً بعد حال من حالاتها التي وصفها الله تعالى، من الانشقاق، والانفطار، والطي، وكونها كالمهل مرة، وكالدهان مرة، ومورانها، وتفتحها، وغير ذلك من حالاتها، وهذا قول عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه.

والخطاب للإنسان، أو لجملة الناس فالمعنى واحد، وهو تنقل الإنسان حالاً بعد حال، من حيث كونه نطفة إلى مستقره من الجنة، أو النار، فكم بين هذين من الأطباق، والأحوال للإنسان. وهذه اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها، ذات طابع خاص يجمع بين الخشوع الساكن، والجلال المرهوب.

وقوله: «فما لهم لا يؤمنون»، إنكار على من لم يؤمن بعد ظهور هذه الآيات.

«بل الذين كفروا يكذبون» أي لا يصدقون بالحق جحوداً وعناداً «والله أعلم بما يوعون»، أي بما يضمرون، فيجازيهم عليه بعلمه وعدله، «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"