الملائكة (2)

القسم الإلهي
03:35 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.

يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.

قال تعالى:«وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ».

هذه الآيات الكريمة هي فاتحة سورة المرسلات، وهي الثالثة والثلاثون في ترتيب النزول والسابعة والسبعون في المصحف، وهي مكية شأنها شأن أغلب السور التي وردت بها آيات قسم، وآياتها خمسون.

وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة، وحقائق الكون والنفس، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض. وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار وهي قوله تعالى: «ويل يومئذ للمكذبين»، ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة، ومشاهدها العنيفة وإيقاعها الشديد، ولنتأمل بماذا أقسم الله في هذه الآيات الكريمة.

يقول ابن قيم الجوزية في كتابه «التبيان في أقسام القرآن»: فسرت المرسلات بالملائكة، وهو قول أبي هريرة، وابن عباس في رواية مقاتل وجماعة، وفسرت بالرياح، وهو قول ابن مسعود، وإحدى الروايتين عن ابن عباس وقول قتادة، وفسرت بالسحاب، وهو قول الحسن، وفسرت بالأنبياء وهو رواية عن ابن عباس.

والإرسال المقسم به هاهنا مقيد بالعرف، فإما أن يكون ضد المنكر، فهو إرسال رسله من الملائكة، ولا يدخل في ذلك إرسال الرياح، ولا الصواعق ولا الشياطين، وأما إرسال الأنبياء فلو أريد لقال: والمرسلين، وليس بالفصيح تسمية الأنبياء مرسلات، وأيضاً فاقتران اللفظة بما بعدها من الإقسام لا يناسب تفسيرها بالأنبياء، وأيضاً فإن الرسل مقسم عليهم في القرآن لا مقسم بهم. ويؤيد كونها الرياح عطف «العاصفات» عليها بفاء التعقيب والتسبب، فكأنها أرسلت، فعصفت، ومن جعل المرسلات الملائكة قال: هي تعصف في مضيها مسرعة كما تعصف الرياح، والأكثرون على أنها الرياح.

وأما «والناشرات نشراً» فهو استئناف قسم آخر، ولهذا أتى به بالواو وما قبله معطوف على القسم الأول بالفاء، قال ابن مسعود، والحسن ومجاهد وقتادة: هي الرياح تأتى بالمطر، ويدل على صحة قولهم قوله تعالى في سورة الأعراف: «وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدى رحمته»، يعنى أنها تنشر السحاب نشراً، وهو ضد الطيء، وقال مقاتل: هي الملائكة تنشر كتب بنى آدم وصحائف أعمالهم، وقال مسروق، وعطاء عن ابن عباس، وقالت طائفة: هي الملائكة تنشر أجنحتها في الجو عند صعودها ونزولها، وقيل: تنشر أوامر الله في الأرض والسماء، وقيل: تنشر النفوس، فتحييها بالإيمان.

وهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أنه سبحانه جعل الإقسام في هذه السورة نوعين وفصل أحدهما من الآخر، وجعل العاصفات معطوفاً على المرسلات بفاء التعقيب فصارا كأنهما نوع واحد، ثم جعل الناشرات كأنه قسم مبتدأ فأتى فيه بالواو، ثم عطف عليه الفارقات والملقيات بالفاء، فأوهم هذا أن الفارقات، والملقيات مرتبط بالناشرات، وأن العاصفات مرتبط بالمرسلات. واختلف في «الفارقات» والأكثرون على أنها الملائكة، ويدل عليه عطف «الملقيات ذكراً» عليها بالفاء.

ومن جعل «الناشرات» الرياح جعل «الفارقات» صفة لها، وقال: هي تفوق السحاب هاهنا وهاهنا، لكن يأبى ذلك عطف «الملقيات» بالفاء عليها، ومن قال: «الفارقات» أي القرآن يفرق بين الحق والباطل، فقوله يلتئم مع كون الناشرات الملائكة أكثر من التئامه إذا قيل: إنها الرياح، ومن قال: هي جماعات الرسل فإنه أراد الرسل من الملائكة، وإن أراد الرسل من البشر ضعف هذا القول.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"