قراءة اقتصادية واجتماعية في أوائل سورة المائدة

ورِقٌ وديـن
20:29 مساء
قراءة 3 دقائق

د.إبراهيم علي المنصوري *

يُعد طرحنا في هذه القراءة النموذج الحي والأمثل للقواعد التي قام عليها الاقتصاد الإسلامي، وسورة «المائدة» من السور التي احتوت أهم التوجيهات في التعاملات المالية والاجتماعية، حيث ابتدأ الله جل وعلا، خطابه موجهاً للمؤمنين الذين رضوا به رباً واتبعوا نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، ليعرض عليهم مجموعة من القواعد المتعلقة بالعقود والطيبات التي أحلّها لهم، والخبيثات التي حرمها عليهم، والمعالجة المتوازنة بين المتطلبات المادية والمعنوية.
قال عز شأنه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِج أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىا
عَلَيْكُمْ غَيْـرَ مُحِلِّـي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ».
كان الاستهلال بالأمر بالوفاء بالعقود، التي يوجب المرء بها حقوقاً على نفسه، فيجب أداؤها كاملة تامة لأهلها، لما فيها من استقرار اقتصادي ونفسي. ويسمو الوفاء لله حين الإيمان به، فهو الذي يقوم باسمه وعلى بركته كلُ عقد، ولأنه يحب المقسطين، فكان لزاماً على المتعاقدين إقامة العدل المطلق عند التعاقد كما وجّه سبحانه في قوله: «كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط».
ولأن الله تعالى هو المشرع للنظام الأصلح للإنسان، فهو الذي يُحلّ له ما ينفع ويحرم ما يضر كما قال سبحانه: «لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا»، فمَدّ الإنسان يده في شؤون الله يُفسد النظام؛ لأن فهمه قاصر، ولا يُحيط بكل شيء، وعليه لا بُد أن يكون أمر الحلال والحرام بيد الله أو ما أمر به نبيه الكريم، ومن رحمته أن أحل للإنسان كل طيب، وجعل أصل الحكم في الأشياء إباحتها حيث قال: «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ..».
ومما أكدته الآيات الكريمة أن العدل من المقاصد السامية في الإسلام، وهو من أهم مقومات التوازن المادي والمعنوي في المجتمع بعد الإيمان بالله والتزام الفرائض، وقد راعى المشرع الحكيم في معالجته الاختلال، بيان الجزاء في الدنيا والآخرة حتى تقوم النفس بالنزوع إلى التقوى عن الفجور، ليفوز صاحبها برضوان الله، كما قال: «وعدَ الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم»، وتنأى به عن الفجور ليفِر عما وعد الله الكافرين كما في قوله: «والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم».
ويتجلى سمو التشريع في بسط روح التسامح بين أفراد المجتمع الواحد، الذين يتقاسمون لقمة العيش، وإن اختلفوا في العقيدة، فقال سبحانه: «وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ»، فهو لم يَنْهَ عباده عن تقبل غير المسلم، طالما أنه لم يكن محارباً ولا غازياً؛ إذ قال: «لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»، فهو يؤكد قيمة العدل والقسط في المعاملات والبر مع جنس الإنسان، دون النظر إلى معتقده.
وأشارت الآيات الكريمة في السورة إلى تمام صور صيانة التشريع لقيم المجتمع وتعزيز أواصر الروابط فيه، والتي تعود عليه بالنفع وتعزز استقراره؛ إذ لم يمنع نكاح النساء العفيفات من أهل الكتاب فقال: «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ»، وأمر المسلم أن يكون عفيفاً لا يبتغي السفاح ولا العشق المحرم.
ويختم الله، عَلَتْ مشيئته، بقوله: «وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ»، مذكّراً عباده المؤمنين بنعمته، وميثاقه عليهم بالسمع والطاعة، وأن المغفرة والأجر العظيم نصيب كل بار، وأن الجحيم نصيب كل فاجر. وبعد أن تَنَفّسْنا عَبَق هذه الآيات الكريمة من أوائل سورة المائدة، تتضح لنا الأعمدة الأساسية التي تسهم في إيجاد التوازن بين الجوانب المعنوية والمادية في المجتمع، وكيفية معالجتها إذا اختلفت لتنشئ مجتمعاً مستقراً اقتصادياً واجتماعياً.

[email protected]
*أستاذ الاقتصاد والمصارف الإسلامية
المساعد بجامعة الشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"