العودة إلى الحياة

02:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق


أدرك الكبار في العالم أنهم أضعف كثيراً مما كانوا يظنون بأنفسهم. ولعل تلك إحدى إيجابيات الجائحة التي لقنت العالم درساً قاسياً.

العودة هي قرار الحكومات ورجاء ونداء الملايين في العالم. العودة إلى حياتنا الطبيعية أو عودة حياتنا الطبيعة إلينا بعد أن سلبها منا فيروس «كورونا» الخبيث. سنعود وقد صهرتنا الآلام والمعاناة، وأنهكنا الإغلاق والعزل والخوف. إنه صوت الإنسانية التي وحَّدها الوباء.

أدرك الكبار في العالم أنهم أضعف كثيراً مما كانوا يظنون بأنفسهم. ولعل تلك إحدى إيجابيات الجائحة التي لقنت العالم درساً قاسياً اكتشف خلاله ضآلة خلافاته السياسية وحروبه العبثية، فلا قيمة لكل ذلك بينما يعجز عن مواجهة عدو صغير يحصد أرواح الملايين من البشر.

حان الوقت لاستئناف الحياة الطبيعية، لم يعد من المحتمل الانتظار أكثر من ذلك حتى لو لم يتم القضاء بصورة كاملة ونهائية على خطر «كورونا». الآن وليس غداً يجب أن تنبض المدارس بضحكات الأطفال ولهوهم، وتمتلئ دروس العلم بالطلبة. ستهدر الآلات في المصانع كما كانت دوماً لتضخ الحياة في شرايين الاقتصاد. ستسكن نفوس المؤمنين المعلقة قلوبهم بالمساجد بعد أن يعاد فتحها. الملاعب والمطاعم والمؤسسات الاقتصادية المختلفة على موعد مع الحياة مرة أخرى.

عشرات الدول بدأت بالفعل مسيرة العودة، متسلحة بإجراءات احترازية واحتياطات صحية، وقبل ذلك بالأمل. هؤلاء الذين واتتهم الشجاعة وحركتهم إرادة البقاء والتحدي قرروا أن يضيئوا شمعة بدلاً من أن يلعنوا الظلام. تبعات الاستمرار في الإغلاق الشامل للأنشطة الاقتصادية قد تكون أسوأ بكثير من نتائج المرض نفسه، لاسيما أنه لا يوجد توقيت محدد ومعروف لانحساره.

وتمثل أمريكا نموذجاً صارخاً للعواقب الكارثية للإغلاق، وهو ما يفسر لماذا تصاعدت فيها الاحتجاجات على استمراره، والإلحاح على استئناف النشاط رغم أنها الدولة الأولى في العالم من حيث عدد الإصابات والوفيات. لم يكن أمام السلطات هناك سوى المجازفة المحسوبة باستئناف الحياة العادية تدريجياً، بعد أن كشفت الأرقام حجم الكارثة الاقتصادية التي تواجهها.

وعلى سبيل المثال يوضح كاسي موليجان، أستاذ الاقتصاديات بجامعة شيكاغو، أن كل يوم يستمر فيه الإغلاق يكلف البلاد 4,4 تريليون دولار سنوياً أو 84,6 مليار دولار أسبوعياً. أما تكلفة الإغلاق لشهر واحد فيقدرها بنحو 367 مليار دولار. هناك تقدير آخر لمؤسسة هيرتيدج يوضح أن تكلفة ثمانية أسابيع من الإغلاق بلغت تريليوني دولار، أي 9% من حجم الاقتصاد.

الترجمة الإنسانية لهذه الأرقام تجسدها أعداد العاطلين عن العمل التي قفزت إلى 36 مليون عاطل في الوقت الراهن، منهم 20 مليوناً فقدوا وظائفهم في إبريل/نيسان وحده. وتبلغ نسبة البطالة حالياً 14% بعد أن كانت 4,4% فقط في مارس/آذار قبل بدء الإغلاق. ويتوقع رئيس الاحتياطي الفيدرالي ارتفاع النسبة إلى 25%. في وقت فقدت فيه 40% من الأسر منخفضة الدخل مورد رزقها.

الصورة في باقي العالم ليست أفضل. ففي أوروبا، وبها سبع من أسوأ عشر دول في العالم من حيث أعداد الضحايا، توجد خسائر جسيمة أيضاً. وأكبر اقتصاداتها وهو الألماني يسجل تراجعاً حاداً يتوقع أن يصل إلى 9,8% في الربع الثاني، بينما النسبة المتوقعة في فرنسا هي 6%، وفي إسبانيا 8%، أما العملاق الياباني فيواجه أسوأ أداء اقتصادي منذ 2015. وإجمالاً يتوقع صندوق النقد تراجع النمو العالمي بنسبة 3% العام المقبل، مما يؤدي لأسوأ موجة ركود منذ الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي.

لا يستطيع العالم تحمل هذا النزيف لفترة أطول، خاصة أن التعافي الكامل لن يحدث فور استئناف النشاط. لذلك فإن قرار العودة ليس انتحاراً أو تهوراً. لكنها الضرورة التي فرضتها الموازنة بين السيّئ والأسوأ، أي مخاطر المرض وعواقب الإغلاق لأجل غير مسمى.

ستتجاوز الإنسانية هذه الأيام الصعبة كما تجاوزت غيرها. ويوماً ما، ندعو الله أن يكون قريباً، سيصبح «كورونا» ذكرى أليمة من الماضي. سلاحنا الأمضى حالياً هو الأمل معززاً بالتفاؤل. وقديماً أخبرنا شكسبير أن الإصرار على التفاؤل يصنع ما كان مستحيلاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"