«الصحة العالمية».. في «عين العاصفة» الأمريكية

03:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد شوقي عبد العال

على الرغم من أن هناك شبه إجماع بين دول العالم على وجوب إدخال إصلاحات جوهرية في طريقة عمل وأداء منظمة الأمم المتحدة، ومجموعة المنظمات المتخصصة المرتبطة بها، فإن الأسابيع القليلة الماضية شهدت وضعية خاصة لمنظمة الصحة العالمية، وهي واحدة من هذه المنظمات، حيث تتعرض لانتقادات شديدة، خصوصاً من جانب الولايات المتحدة.
الحملة ضد منظمة الصحة مردّها التباين الشديد بين ما كان ينبغي أن يقدم لها من دعم ومساندة في مثل هذا التوقيت لمساعدتها على النجاح في تحقيق مهمتها في مكافحة فيروس «كورونا المستجد»، من جانب، والمواقف السلبية لبعض الدول إزاءها، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية التي هي المساهم الأكبر في تمويل المنظمة، والتي لم تكتف بمهاجمة المنظمة، واتهامها بالفشل في التعامل مع الأزمة، أو حتى اتهامها بالتواطؤ مع الصين في إخفاء الحقائق المتعلقة بها، بل سارت شوطًا أطول في هذا الطريق بتجميد مساهماتها المالية في ميزانيتها، في وقت هي في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه المساهمات، من جانب آخر.


صراع سياسي


وهكذا، فقد كشفت الأزمة الحالية المفارقة الكبيرة بين الدور المفترض في منظمة الصحة العالمية بوصفها «وزارة صحة العالم»، إن جاز هذا التعبير، والتي ينبغي أن تضطلع بالمسؤولية الأهم في مواجهة مثل هذه الأزمات، والذي كان يستدعي، وفقاً لمقتضيات ميثاقها المنشأ، أن تقود وتنسق المواجهة العالمية ضد فيروس «كورونا المستجد»، والضعف الكامن في آلية عملها. فقد تم تهميش دورها إلى حد بعيد، وبطرق مختلفة، وغاب التضامن العالمي المفترض في شأن دعم جهودها، وأصبحت المنظمة ساحة من ساحات الصراع السياسي المحتدم على قمة النظام العالمي القائم. وهو الضعف الذي أدى إلى تقييد قدرة المنظمة على الاستجابة لمثل هذه الأزمات، الأمر الذي عرّضها لانتقادات شديدة في الأزمة الحالية، إلى درجة أن بعض المنتقدين لها ذهبوا إلى حد التساؤل حول مدى الحاجة إلى وجود مثل هذه المنظمة الصحية الضعيفة، متناسين أن هذا الضعف هو النتيجة المنطقية لسلوك الدول إزاء المنظمة، وانتهاكها للائحة الصحة الدولية التي أجرت عليها المنظمة تنقيحاً كبيراً عام 2005 والتي تتضمن إطار الاستجابة العالمي لحالات تفشي الأمراض على نحو ما يشهده العالم في الآونة الراهنة.


دور المنظمة


وجدير بالذكر في هذا الصدد، أن منظمة الصحة العالمية، التي يعمل تحت مظلتها آلاف الأطباء والمتخصصين والخبراء في علوم الإدارة والاقتصاد والإغاثة في حالات الطوارئ، وتسعى إلى معالجة المسائل الصحية على المستوى العالمي، وتوفير الدعم الفني للدول الأعضاء فيها، إضافة إلى إصدار معلومات صحية موثوق بها، وإرساء شراكات فعالة متعددة الأطراف لتنفيذ البرامج الصحية، قد نجحت في تحقيق نتائج باهرة في مواجهة بعض أخطر الأمراض التي كانت تهدد البشرية. من ذلك على سبيل المثال، نجاحها عام 1979 في استئصال مرض «الجدري»، وهو أحد أهم الأمراض المعدية، بعد تنسيق استمر اثني عشر عاماً، مع جميع دول العالم. كما أطلقت عام 1988 «المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال»، ونجحت في تقليص الإصابة بهذا المرض الخطير حتى كادت تنعدم تماماً.
كذلك فقد قامت المنظمة عام 2005، كما تقدمت الإشارة، بإجراء تنقيح كبير على لائحة الصحة الدولية التي تتضمن إطار الاستجابة العالمي لحالات تفشي الأمراض، بهدف تصحيح عيوب وإخفاقات التعامل الدولي مع حالة تفشي وباء «سارس» عام 2003. وقد تلخصت الفكرة الأساسية لهذه اللائحة في أن تتحول «منظمة الصحة العالمية» إلى هيئة تنسيق مركزية، تقوم الحكومات بإخطارها في حال تفشي مرض ما، فيتم تبادل البيانات لمساعدة العلماء حول العالم في معالجة مسبباته، وتنسيق جهود احتوائه، وإعلان حالات الطوارئ، وتقديم التوصيات اللازمة. وهي لائحة ملزمة لكل الدول الأعضاء في المنظمة بعدما وقع عليها الجميع. وهي اللائحة نفسها التي قامت كثير من الدول الأعضاء بانتهاكها، متجاهلة التزاماتها الدولية بصددها في أزمة فيروس «كورونا المستجد»، الأمر الذي أشار إليه المدير العام للمنظمة غير مرة في هذا السياق.


ثغرة قانونية


استغلت حكومات بعض الدول المصدقة على اللائحة ثغرة قانونية في النصوص المتعلقة بها، حاول من خلالها ممثلو الدول عام 2005 خلق حالة من التوازن بين التزامات الدول الأعضاء تجاه المنظمة من جانب، ودعاوى سيادة الدول من جانب آخر، فصاغوا نصاً أعطى الدول الحق في اتخاذ تدابير صحية يرى مسؤولو الصحة فيها أنها ستحقق نتائج أفضل من تلك التي تعتقد المنظمة في جدواها. مع الأخذ في الاعتبار - وفق هذه النصوص - وجوب أن تلتزم الدول بإبلاغ منظمة الصحة العالمية في غضون ثماني وأربعين ساعة بالتدابير التي تتخذها خارج نطاق المبادئ التوجيهية الجماعية، وكذلك إبلاغها الأساس المنطقي وراء أفعالها هذه. وهي الثغرة التي نفذت منها دول عدة، للتحلل من التزاماتها بموجب اللائحة الدولية في الأزمة الحالية، ثم كان أن نسب التقصير والفشل إلى المنظمة، وليس إلى الدول التي تسببت بهذا بسلوكها الخارج عن نطاق التزاماتها القانونية بموجب اللائحة.
والحق أنه إذا كانت منظمة الصحة العالمية قد استفادت من أصابع الاتهام التي وجهت إليها عام 2013 جراء إساءتها تقدير حجم أزمة انتشار وباء «إيبولا»، في بلدان غرب إفريقيا، واتهامها عام 2009، على العكس من ذلك، بالمبالغة في رد فعلها تجاه تفشي «إنفلونزا الخنازير»، بعدما أعلنت «حالة الوباء» تحت ضغط شركات إنتاج الأدوية، وذلك بأن أدخلت إصلاحات في طريقة أدائها للعمل، تحت وطأة الاتهامات المتعلقة بهذين الحادثين، جعلتها قادرة على التحرك بسرعة وفاعلية أكبر، على نحو ما بان جليا في تعاملها مع الأزمة الصحية في الكونغو التي تواجه منذ عام 2018 انتشاراً واسعاً لوباء «إيبولا»، فإن هذا لم يشفع للمنظمة مع ظهور فيروس «كورونا المستجد» نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إذ عادت نغمة انتقادها مجدداً، وإن على نطاق أوسع هذه المرة، بل وصل الأمر بأهم دولة مساهمة في ميزانية المنظمة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، إلى حد تجميد مساهماتها في الميزانية، والمطالبة بإجراء تحقيق دولي في أسباب إخفاقها في التعامل مع الأزمة، من دون أن يسأل أحد المنتقدين للمنظمة نفسه عن مدى إخفاقه هو في أداء ما عليه من التزامات بموجب اللائحة الدولية، وبموجب مقتضيات العضوية في المنظمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"