رواية الحديث.. باللفظ أم بالمعنى؟

وما ينطق عن الهوى
01:57 صباحا
قراءة 5 دقائق

‬حرص الكثير من الصحابة على نقل الحديث بألفاظه، وبعضهم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى، وكما روى بعض الصحابة الحديث باللفظ وبعضهم بالمعنى نرى التابعين أيضاً قد نهجوا نهج الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن مما لا شك فيه أن جميع الصحابة حرصوا على أداء الحديث كما سمعوه من الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إن بعضهم ما كان‮ ‬يرضى أن‮ ‬يبدل حرفاً بحرف، أو كلمة مكان كلمة، أو‮ ‬يقدم كلمة على أخرى وردت في‮ ‬الحديث قبلها، وقد روى عن عمر بن الخطاب رضي‮ ‬الله عنه، أنه كان‮ ‬يقول‮: (‬من سمع حديثاً فحدث به كما سمع فقد سلم‮) ‬وروي نحوه عن عبد الله بن عمر وزيد بن أرقم‮ رضي الله عنهما.
‮يقول الخطيب البغدادي‮ ‬في‮ ‬كتاب‮ «‬الكفاية في‮ ‬علم الرواية‮»: ‬اشتهر من بين الصحابة الذين كانوا‮ ‬يتشددون في‮ ‬الحرص على لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم‮ ‬ عبد الله بن عمر‮. ‬روى محمد بن سوقة قال‮: (‬سمعت أبا جعفر‮ ‬يقول‮: ‬كان عبد الله بن عمر إذا سمع من نبي‮ ‬الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، أو شهد معه مشهداً، لم‮ ‬يقصر دونه أو‮ ‬يعدوه، قال‮: ‬فبينما هو جالس وعبيد بن عمير‮ ‬يقص على أهل مكة، إذ قال عبيد بن عمير‮: ‬مثل المنافق كمثل الشاة بين الغنمين، إن أقبلت إلى هذه الغنم نطحتها، وإن أقبلت إلى هذه نطحتها، فقال له عبد الله بن عمر‮: ‬ليس هكذا، فغضب عبيد بن عمير، وفي‮ ‬المجلس عبد الله بن صفوان، فقال‮: ‬يا أبا عبد الرحمن، كيف قال رحمك الله؟ فقال‮: ‬قال‮: ‬مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين، إن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، وإن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها‮. ‬فقال له‮: ‬رحمك الله هما واحد‮. ‬قال‮: ‬كذا سمعت‮).‬


رسوخ المعنى


‮روى ابن عمر حديث بُني‮ ‬الإسلام على خمس، فأعاده رجل فقال له ابن عمر‮: (‬لا، اجعل صيام رمضان آخرهن كما سمعت من في‮ ‬رسول الله صلى الله عليه وسلم‮) ‬ولهذا نرى في‮ ‬بعض الأحاديث، قول الراوي:‮ «كذا وكذا‮ ‬ لا أدري‮ ‬بأيهما بدأ‮، ‬أو أيهما قيل قبل»، ونحو ذلك‮. ‬وهذا تنبيه من الراوي‮ ‬إلى أنه أدرك الحديث وفهمه، ولكنه لم‮ ‬يتأكد من ترتيب اسمين فيه أو كلمتين فيبين موضع شكه وأن الشك منه ليس في‮ ‬أصل الحديث، ومن هذا ما رواه خالد بن زيد الجهني‮ ‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‮: «‬قريش والأنصار، وأسلم وغفار‮ ‬، أو‮ ‬غفار وأسلم‮».‬
‮وتشدد بعض الرواة في‮ ‬المحافظة على نص الحديث بألفاظه، فمنع زيادة حرف واحد، أو حذفه وإن كان لا‮ ‬يغير المعنى، ومن هذا ما رواه سفيان قال‮: ‬حدثنا الزهري‮ ‬أنه سمع أنس بن مالك‮ ‬يقول‮: ‬نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والمزفت أن‮ ‬ينتبذ فيه، فقيل لسفيان أن‮ ‬ينبذ فيه؟ فقال‮: ‬لا، هكذا قاله لنا الزهري‮ (‬ينتبذ فيه‮).‬
‮وكان بعض الرواة شديدي‮ ‬الحرص على اللفظ الذي‮ ‬سمعوه، فلا‮ ‬يخففون حرفا ثقيلا، ولا‮ ‬يثقلون حرفا خفيفا، ولا‮ ‬يبدلون حركات الحروف التي‮ ‬يسمعونها، بل‮ ‬يروونها كما سمعوها، وإن كان ذلك التغيير لا‮ ‬يبدل معناها، نحو‮ (‬نما‮ - نمى‮) ‬في‮ ‬حديثه صلى الله عليه وسلم‮ (‬ليس الكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى‮ ‬خيرا‮). ‬قال حماد‮: ‬سمعت هذا الحديث من رجلين، فقال أحدهم: نما خيرا‮ (‬خفيفة‮) ‬وقال الآخر نمى خيرا‮ (‬مثقلة‮).‬


ورع الصحابة


‮يذكر الحسن بن عبد الرحمن من خلال الرامهرمزي‮ ‬في‮ ‬كتاب‮ «‬المحدث الفاصل بين الراوي‮ ‬والواعي‮»‬، أنه إلى جانب هذه الأخبار نرى أخباراً أخرى تدل على أن بعض الصحابة والتابعين رووا بعض الأحاديث بمعانيها، أو أنهم أجازوا إبدال كلمة بأخرى عند الضرورة، وكان أحدهم إذا اضطر إلى هذا أشار إلى أن ما‮ ‬يرويه ليس لفظه صلى الله عليه وسلم‮. ‬لذلك نرى بعض الصحابة‮ ‬يتورعون كثيراً‮ ‬عند ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية الخطأ‮.‬
‮وقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا روى‮ ‬يقول‮: (‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‬هكذا أو نحوا من هذا، أو قريبا من هذا، وكان‮ ‬يرتعد‮).‬
‮وكان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا فرغ‮ ‬من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‮: «هذا أو نحو هذا أو شكله»، وقد‮ ‬يقول‮: (‬اللهم إلا هكذا). ‬وقال محمد بن سيرين‮: (‬كان أنس بن مالك قليل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‮: ‬وكان إذا حدث عنه قال‮: ‬أو كما قال‮).‬
‮وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال‮: (‬قالت لي‮ ‬عائشة رضي‮ ‬الله عنها‮: ‬«يا بني‮ ‬يبلغني‮ ‬إنك تكتب عني‮ ‬الحديث ثم تعود فتكتبه، فقلت لها‮: ‬أسمعه منك على شيء، ثم أعود فأسمعه على‮ ‬غيره، فقالت‮: ‬هل تسمع في‮ ‬المعنى خلافا؟ قلت‮: ‬لا، قالت‮: ‬لا بأس بذلك‮). ‬وعن أيوب عن محمد بن سيرين قال‮: ‬ربما سمعت الحديث عن عشرة كلهم‮ ‬يختلف في‮ ‬اللفظ والمعنى واحد»‮.‬


أصل واحد


‮قال مكحول‮: ‬«دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع، فقلنا له‮: ‬يا أبا الأسقع، حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس فيه وهم ولا تزيد ولا نسيان، قال‮: ‬هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا؟ قال‮: ‬فقلنا نعم، وما نحن له بحافظين جدا، إنا لنزيد الواو والألف وننقص‮.
‬قال‮: ‬فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألون حفظا، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى ألا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدة، حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى‮».‬
‮وروى قتادة عن زرارة بن أبي‮ ‬أوفى قال‮: «‬لقيت عدة من أصحاب النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا عليّ في‮ ‬اللفظ واجتمعوا في‮ ‬المعنى»، وقال جرير بن حازم‮: (‬سمعت الحسن‮ ‬يحدث بالحديث‮: ‬الأصل واحد والكلام مختلف‮)‬، وقال عمران القصير‮: (‬قلت له‮ (‬للحسن البصري‮): ‬إنا نسمع الحديث فلا نجيء به على ما سمعناه، قال‮: ‬لو كنا لا نحدثكم إلا كما سمعنا ما حدثناكم بحديثين، ولكن إذا جاء حلاله وحرامه فلا بأس‮).‬


إجازة مشروطة


‮رويت إجازة التحديث بالمعنى عن عبد الله بن مسعود وأبي‮ ‬الدرداء وأنس بن مالك، وعائشة أم المؤمنين، وعمرو بن دينار، وعامر الشعبي‮ ‬وإبراهيم النخعي، وابن أبي‮ ‬نجيح، وعمرو بن مرة، وجعفر بن محمد بن علي، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان‮. ‬وقد أدرك ابن عون ثلاثة ممن‮ ‬يرخصون في‮ ‬رواية الحديث على المعنى هم‮: ‬الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وعامر الشعبي‮ رضي الله عنهم أجمعين.
‮وهؤلاء الذين أجازوا رواية الحديث على المعنى عند الضرورة، كانوا‮ ‬يبينون للسامعين أنهم رووا بعض الحديث على المعنى بقولهم بعد روايته: ‬(أو كما قال، ونحو هذا)، ومنهم من كان لا‮ ‬يبيح لمن‮ ‬يسمح أن‮ ‬يكتب عنه الحديث حتى لا‮ ‬يظن أن ما رواه لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان عمرو بن دينار‮ ‬يحدث على المعنى ويقول‮: (‬أحرج على من‮ ‬يكتب عني‮).‬
‮ولابد من أن نقرر أن من أباح رواية الحديث على المعنى أباحه بشروط، ولم‮ ‬يطلق هذا لأي‮ ‬إنسان، وأجازوا ذلك للضرورة، كأن‮ ‬يند اللفظ عن الذاكرة، أو‮ ‬يغيب لفظ الحديث عن المحدث عند الحاجة إلى روايته فيرويه بالمعنى، والضرورة تقدر بقدرها‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"