الإمام الشاطبي.. مؤسس علم مقاصد الشريعة

قامات إسلامية
01:37 صباحا
قراءة 5 دقائق
بقلم: محمد حماد

إذا كان الإمام الشافعي هو مؤسس علم أصول الفقه في القرن الثاني الهجري، فإن الشاطبي هو مؤسس علم المقاصد حيث وضع قواعد أصول الشريعة في القرن الثامن الهجري.
وكما كان الشافعي واحداً من أهم مجددي القرن الثاني على كثرتهم، اعتبر الشاطبي أحد المجددين في القرن الثامن، على قلتهم، لم تجمع بين الإمامين الشافعي والشاطبي النزعة التأصيلية عندهما فقط، ولكن يجمع بينهما أيضاً أن كل واحد منهما بدأ مالكياً وانتهى إلى مذهب جديد في النظر إلى قضايا الشريعة والفقه.
كان الإمام الشافعي على مقربة من عهد النبوة والصحابة والتابعين، ووسط نهضة فقهية وعلمية إسلامية صاعدة، وكانت دولة الإسلام لا تزال فتية ناهضة، تبني حضارتها العربية الإسلامية، وكان صاحب نزعة توفيقية بين مدرستي الفقه الرئيسيتين مدرسة الرأي التي مثلها أبو حنيفة خير تمثيل ومدرسة الحديث التي كان الإمام مالك على رأسها، وقد ظهرت تلك النزعة عند الشافعي في كتابيه «الرسالة» و«الأم». بينما جاء الإمام الشاطبي في آخر مراحل التطور الحضاري، والتي بدأ بعدها العالم الإسلامي يدخل في مرحلة سبات قسرية بفعل العديد من المتغيرات التي أحاطت به داخلياً وخارجياً، وقد كان صاحب نزعة إصلاحية تجديدية ظهرت في كتابيه «الموافقات، والاعتصام».
هو إبراهيم بن موسى بن محمد، كنيته: أبو إسحاق، نسبته: الغرناطي، والشاطبي، أما الغرناطي: فنسبة إلى مملكة غرناطة التي عاش فيها الشاطبي، وأما الشاطبي: فنسبة إلى شاطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة في شرقي الأندلس، وشرقي قرطبة.
نشأ الشاطبي بغرناطة ما بين (720 - 790ه) على الأرجح، لأن مصادر ترجمته لم تحدد سنة ولادته، وذكرت أنه نشأ وترعرع بغرناطة، وتحدث مترجموه عن شيوخه الغرناطيين، وعن جده واجتهاده في طلب العلم، والظاهر أنه لازم غرناطة إلى أن توفي بها سنة 790ه.
عاصر الشاطبي أهم فترات الدولة النصرية، وهي آخر أسرة عربية إسلامية حكمت في الأندلس منذ أعلن محمد بن نصر بن الأحمر سنة 1232 م نفسه سلطاناً في أرجونة، واستولى بعدها على العديد من المناطق والمدن جنوب الأندلس (غرناطة ومالقة). واستطاع هو وابنه من بعده محمد الثاني أن يدعما أركان دولتهما التي بلغت أوجها الثقافي وأصبحت مملكة غرناطة مركزاً للحضارة الإسلامية في الأندلس، وعايش الشاطبي انتصارات جيوش بني الأحمر، واسترجاع بعض المدن والقرى على عهد محمد الغني بالله (755 - 793ه) الذي استطاع أن يسترجع ثغر بطرنة سنة 767ه، والجزيرة الخضراء سنة 770 ه وإشبيلية سنة 771ه، وهاجم جيان، بل تمكن من محاصرة قرطبة.


نجم ساطع


إلى جانب تثبيت أركان الدولة النصرية اهتم الأمراء بالعلم والعلماء وشهدت الحالة الثقافية انتعاشاً، وبلغت الحركة الثقافية ذروتها في العام 733ه ، وفي هذه الأجواء نشأ وعاش وتفاعل الإمام الشاطبي، وكان عفيفاً ورعاً ذا خلق نبيل، شغوفاً بالعلم منذ صغره، تلقى العلم عن خيرة العلماء بالأندلس، وتتلمذ على يد الكثير من العلماء من الشيوخ الغرناطيين والوافدين الذين أحسنوا إعداده الأدبي والعلمي في شتى الفروع العلمية، وكونوا شخصيته وقاموا بتثقيفه بالكثير من المعارف، ويصف الأمر بنفسه فيقول: «لم أزل منذ فتق للفهم عقلي، ووجه شطر العلم طلبي، أنظر في عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر على علم دون علم، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون آخر، فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول».
ولم يزل الشاطبي مجتهداً في طلب العلم حتى برع فيه، وصار من كبار أئمته، تكلم في كثير من المسائل مع علماء عصره، وتميز بمنزلة عالية رفيعة بين علماء الشريعة الإسلامية، فتتلمذ على يديه الكثير من العلماء، فكان الشاطبي بذلك نجماً ساطعاً بين علماء عصره.


مقاومة البدع


كان للاستقرار السياسي الذي حققته مملكة غرناطة أثر كبير في ازدهارها علمياً وثقافياً، واجتماعياً ولم يلبث الأمر أن تطور إلى انغماس الناس في الترف، وانغمس الناس في الملذات الدنيوية المباحة، والاهتمام بالزينة والمآكل والمشارب والأعياد غير المباحة، وانتشرت البدع، ودخل الناس في كثيرٍ من المحرمات، فاحتاج الإمام الشاطبي وغيره إلى البدء بالتوعية بالمخاطر التي تنتظرهم، والتذكير بأحكام الدين الحنيف.
كان الشاطبي حريصاً على اتباع السنة البعيدة عن البدعة والشبهة، حتى حدث الصدام بينه وبين شيوخه لشيوع البدعة بينهم وتساهلهم في شأنها إرضاء للعامة وأشباههم، فلم يسلك في هذا مسلكهم، لكونه كان ينهج نهج المتقدمين من العلماء، فكان لا يأخذ الفقه وعلومه سوى من كتب الأقدمين·
اشتهر الشاطبي بمقاومة البدع وأهلها، ووجد مقاومة عنيفة، وتعرض لبعض المحن فنسبت إليه أمور لم يقلها، منها أن الدعاء لا ينفع، وكان ينكر ما انتشر في مجتمع غرناطة حيث كان الإمام يدعو والمأمومون يؤمنون عقب الصلوات المفروضة، ويرى أنه بدعة إذ لم يرد ذلك عن السلف الصالح، وحين تولى الخطابة في الجامع الأعظم، حاول أن يبين ما أدخل على الخطابة والإمامة من البدع، وكان يرى أن ما انتشر من أدعية أئمة المساجد للخلفاء فوق المنابر على وجه الالتزام أمر لم يأتِ به الشرع، فلم يكن يلتزم به في خطبته.
وظهرت طائفة في الأندلس تزعم أنها من الصوفية، وأن هداية الخلق بأيديهم، فكانوا يجتمعون على الذكر بأصوات مرتفعة، ثم يغنون ويضربون بالأكف، فتصدى الشاطبي لهم، ويقول: «وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية، ولم يتشبهوا بهم».


هدف الشريعة الأسمى


الشريعة في نظر الشاطبي هي النظام العام الشامل للوجود الإنساني، الهادف لإصلاحه، المُحقق لسعادته في هذه الدنيا وفي الآخرة، وهذا النظام قد توضحت معالمه منذ نزوله في القرآن الكريم، فهو الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، ونظراً لأن هدف الشريعة إصلاح أحوال البشر وفق النهج المبين الذي مشى عليه، والتزم به رسول الله وصحابته الكرام، فقد وجَّه الشاطبي كل جهوده الإصلاحية للعودة بمسلمي عصره إلى ما كان عليه السلف الصالح اقتناعاً منه بأن هذا هو السبيل الوحيد لإصلاح أحوالهم وتحقيق مصالحهم التي لم تنزل الشريعة أصلاً إلا لتحقيقها وحفظها، ومن هنا تأتي تلك الصلة الوثيقة بين جهود الشاطبي المقاصدية وبين جهوده الإصلاحية.
«اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعة الإسلامية وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، هي: «الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري». هذه هي النظرية الجامعة التي استخلصها الإمام بعد ثمانية قرون من الاجتهاد الفقهي في الشريعة الإسلامية، بكلياتها وفروعها، قائلاً: «إن هذه الكليات الخمس أو المقاصد الخمسة من الأمور التي لا يرقى إليها الشك، فليبحر الفقهاء مهما أبحروا، وليتكلم في أمور الشريعة من يتكلم، لكن الثابت على طول الدهر أن هدف الشريعة الأسمى ومقصدها الأنبل هو الحفاظ على هذه الكليات الخمس».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"