طرق الصحابة في التثبت من الحديث

وما ينطق عن الهوى
03:19 صباحا
قراءة 5 دقائق

اتخذ الصحابة العديد من الطرق والوسائل التي‮ ‬تعينهم على التثبت من صحة الحديث وقبول الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‮ ‬فكانوا‮ ‬يستعينون بأكثر من راوٍ ‬للحديث وكانوا‮ ‬يحتاطون بإقامة البينة أو أن‮ ‬يشهد الناس على الراوي‮ ‬أو أن‮ ‬يستحلف، ‮ ‬فإذا لم‮ ‬يحصل شيء من هذا رد خبره‮.‬
‮يقول الإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي‮ ‬في‮ ‬كتاب‮ «‬تذكرة الحفاظ‮»: «كان أبو بكر‮ ‬ رضي‮ ‬الله عنه‮ ‬ أول من احتاط في‮ ‬قبول الأخبار، ‮ ‬وكان قدوة حسنة للمسلمين في‮ ‬المحافظة على السنة والتثبت في‮ ‬قبول الأخبار خشية أن‮ ‬يقع المسلمون في‮ ‬خطأ‮ ‬يودي‮ ‬بهم إلى ما لا تحمد عقباه، ‮ ‬فعن‮ ‬يونس‮ «‬بن‮ ‬يزيد‮» ‬عن الزهري‮ ‬أن أبا بكر حدث رجلا حديثاً‮ ‬فاستفهمه الرجل إياه، ‮ ‬فقال أبو بكر: هو كما حدثتك‮، ‬أي‮ ‬أرض تقلني‮ ‬إذا أنا قلت ما لم أعلم؟‮!».


الاستئذان ثلاثاً


‬‮‬وروى الإمام البخاري‮ ‬عن أبي‮ ‬سعيد الخدري‮ ‬قال‮: «‬كنت في‮ ‬مجلس من مجال الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، ‮ ‬فقال‮: ‬استأذنت على عمر ثلاثاً فلم‮ ‬يؤذن لي‮ ‬فرجعت فقال‮: ‬ما منعك؟ قلت‮: ‬استأذنت ثلاثاً‮ ‬فلم‮ ‬يؤذن لي‮ ‬فرجعت، ‮ ‬وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‮: (‬إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم‮ ‬يؤذن له فليرجع‮). ‬فقال‮: ‬والله لتقيمن عليه ببينة، ‮ ‬أمنكم أحد سمعه من النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي‮ ‬بن كعب‮: ‬والله لا‮ ‬يقوم معك إلاّ أصغر القوم، ‮ ‬فكنت أصغر القوم، ‮ ‬فقمت معه، ‮ ‬فأخبرت عمر أن النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم قال ذلك‮) ‬فقال عمر لأبي‮ ‬موسى‮: ‬أما إني‮ ‬لم أتهمك، ‬ولكن خشيت أن‮ ‬يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم»‮.‬
‮وتثبت عثمان رضي‮ ‬الله عنه في‮ ‬الحديث‮: ‬فعن بسر بن سعيد قال‮: «‬أتى عثمان المقاعد، ‮ ‬فدعا بوضوء، ‮ ‬فتمضمض واستنشق ثم‮ ‬غسل وجهه ثلاثاً، ‮ ‬ويديه ثلاثاً ثلاثاً، ‮ ‬ثم مسح برأسه، ‮ ‬ورجليه ثلاثاً ثلاثاً، ‮ ‬ثم قال‮: ‬رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا‮ ‬يتوضأ، ‮ ‬يا هؤلاء أكذاك؟ قالوا‮: ‬نعم، ‮ ‬لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده»‮. ‬
‮وتثبت علي‮ ‬بن أبي‮ ‬طالب رضي‮ ‬الله عنه في‮ ‬الحديث‮: ‬فعنه رضي‮ ‬الله عنه قال‮: ‬«كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني‮ ‬الله بما شاء منه‮. ‬وإذا حدثني‮ ‬غيره استحلفته، ‮ ‬فإذا حلف لي‮ ‬صدقته، ‮ ‬وإن أبا بكر حدثني، ‮ ‬وصدق أبو بكر، ‮ ‬أنه سمع النبي‮ ‬عليه الصلاة والسلام قال‮: (‬ما من رجل‮ ‬يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء، ‮ ‬ويصلي‮ ‬ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا‮ ‬غفر له‮)».‬


التحفظ في دين الله


‮ ‬ويؤكد الدكتور محمد عجاج الخطيب في‮ ‬كتابه‮ «السنة قبل التدوين‮» ‬على أن تلك آثار تبين منهج الصحابة في‮ ‬التثبت والتأكد من الأخبار، ‮ ‬وهذا لا‮ ‬يعني‮ ‬أبداً أن الصحابة اشترطوا لقبول الحديث، ‮ ‬أن‮ ‬يرويه راويان فأكثر، ‮ ‬أو أن‮ ‬يشهد الناس على الراوي‮ ‬أو أن‮ ‬يستحلف، ‮ ‬فإذا لم‮ ‬يحصل شيء من هذا رد خبره‮!! ‬بل كان الصحابة‮ ‬يتثبتون في‮ ‬قبول الأخبار، ‮ ‬ويتبعون الطريقة التي‮ ‬ترتاح إليها ضمائرهم، ‮ ‬فأحياناً‮ ‬يطلب عمر سماع آخر، ‮ ‬وأحياناً‮ ‬يقبل الخبر من‮ ‬غير ذلك، ‮ ‬ولا‮ ‬يقصد من وراء عمله إلا حمل المسلمين على جادة التثبت العلمي‮ ‬والتحفظ في‮ ‬دين الله حتى لا‮ ‬يتقول أحد على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم‮ ‬يقل، ‮ ‬ويتضح هذا في‮ ‬قول عمر رضي‮ ‬الله عنه عندما رجع أبو موسى الأشعري‮ ‬مع أبي‮ ‬سعيد الخدري‮ ‬وشهد له، ‮ ‬قال عمر‮: (‬أما إني، ‮ ‬لم أتهمك، ‮ ‬ولكني‮ ‬خشيت أن‮ ‬يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم‮). ‬ويظهر ذلك أيضاً من قول الذهبي‮ ‬بعد أن روى قصة أبي‮ ‬موسى‮: (‬أحب عمر أن‮ ‬يتأكد عنده خبر أبي‮ ‬موسى بقول صاحب آخر ففي‮ ‬هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، ‮ ‬وفي‮ ‬ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي‮ ‬يرتقي‮ ‬عن درجة الظن إلى درجة العلم، ‮ ‬إذ الواحد‮ ‬يجوز عليه النسيان والوهم، ‮ ‬ولا‮ ‬يكاد‮ ‬يجوز ذلك على ثقتين لم‮ ‬يخالفهما أحد‮».‬
‮ ‬وكذلك ما قاله بعد إيراد طريقة الصديق في‮ ‬التثبت‮: (‬إن مراد الصديق التثبت في‮ ‬الأخبار والتحري، ‮ ‬لا سد باب الرواية‮). ‬وكما طلب الصحابة من الراوي‮ ‬شهادة‮ ‬غيره أيضاً، ‮ ‬قبلوا أحاديث كثيرة برواية الآحاد وبنوا عليها أحكامهم‮.‬


جهود التابعين


ويشير الخطيب البغدادي‮ ‬في‮ ‬كتابه‮ «‬الجامعة لأخلاق الراوي‮ ‬وآداب السامع‮» ‬إلى أن أدب التابعين وأتباعهم لم يكونوا أقل اهتماماً من الصحابة بالاحتياط لقبول الحديث، ‮ ‬فكانوا‮ ‬يتثبتون من الراوي‮ ‬بكل وسيلة تطمئن إليها قلوبهم، ‮ ‬وإن من‮ ‬يتتبع تاريخ الرواة، ‮ ‬وكيفية تحملهم الحديث الشريف ليدرك تماماً جهود التابعين وأتباعهم، ‮ ‬تلك الجهود التي‮ ‬بذلوها لنقل السنة إلى خلفهم‮.
وكان‮ ‬يزيد بن أبي‮ ‬حبيب محدث الديار المصرية‮ ‬يقول‮: ‬«إذا سمعت الحديث فانشده كما تنشد الضالة، ‮ ‬فإن عرف فخذه، ‮ ‬وإلا فدعه»‮.‬
‮ولم‮ ‬تكن للتابعين وأتباعهم شروط خاصة في‮ ‬قبول الرواية، ‮ ‬ولم‮ ‬يرو عن أحدهم أنه اشترط لقبول الخبر راويين أو أكثر، ‮ ‬بل كانوا‮ ‬يتحملون عن كل من توافرت فيه شروط التحمل والأداء، ‮ ‬إلى جانب العدالة التي‮ ‬أجمع عليها المحدثون، ‮ ‬فإذا ما سقطت عدالة راوٍ طرحوا أخباره وامتنعوا عن الأخذ عنه‮.‬
‮ ‬ومع هذا كانوا‮ ‬يتثبتون في‮ ‬قبول الأخبار بكل وسيلة تطمئن إليها قلوبهم، ‮ ‬لأن وصايا الصحابة وكبار التابعين لا تزال قائمة في‮ ‬نفوسهم، ‮ ‬تذكرهم أن الحديث دين «فانظروا عمن تأخذون دينكم‮».‬


أمانة ثقيلة


وكان التابعون يرون أن الأمانة في‮ ‬الذهب أيسر من الأمانة في‮ ‬الحديث، ‮ ‬فنسمع عن سليمان بن موسى أنه لقي طاوساً فقال له‮: (‬إن رجلا حدثني‮ ‬بكيت وكيت، ‮ ‬فيقول له‮: ‬إن كان ملياً فخذ منه‮). ‬وكان ابن عون‮ ‬يقول‮: «‬لا‮ ‬يؤخذ هذا العلم إلا ممن شهد له بالطلب»‮. ‬ويسمع شعبة بن الحجاج عبد الله بن دينار‮ ‬يحدث في‮ ‬الولاء وهبته عن عبد الله بن عمر، ‮ ‬فيستحلفه‮: ‬هل سمعه من ابن عمر؟ فيحلف له‮. ‬ويحدث الحكم عن سعيد بن المسيب في‮ ‬دية اليهودي‮ ‬والنصراني‮ ‬والمجوسي، ‮ ‬فيقول له شعبة‮: ‬أنت سمعته من سعيد بن المسيب؟ فيقول‮: ‬لو شئت سمعت من ثابت الحداد، ‮ ‬قال شعبة‮: ‬فأتيت ثابتاً الحداد فحدثني‮ ‬عن سعيد بن المسيب عن عمر مثله‮. ‬فلا‮ ‬يمكننا أن نحكم على شعبة أنه لم‮ ‬يكن‮ ‬يقبل رواية أحد إلا بعد تحليفه، ‮ ‬أو الاستيثاق برواية آخر معه‮. ‬بل كل هذا كان من باب التثبت والاستيثاق والتأكد مما‮ ‬يسمعون، ‮ ‬حرصاً منهم على حفظ الحديث النبوي‮ ‬الشريف‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"