الدين في العلاقات الدولية

03:13 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

الدين استطاع أن يدخل إلى معترك السياسة مع نشأة الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا ومع تأسيس أحزاب إسلامية في العديد من الدول العربية والإسلامية.

يمثل حضور الدين في السياسات الوطنية للدول، وفي العلاقات الدولية، أحد أهم العناصر التي يمكنها أن تساعد في فهم العديد من التحولات والاستراتيجيات المعتمدة من طرف الفاعلين الأساسيين على مستوى المشهد العالمي، بخاصة في سياق العولمة التي أثرت بشكل لافت في المجتمعات، وفي أسلوب تعاملها مع المسائل الثقافية، والدينية، واللغوية، وكل ما يتصل بعناصر الهوية، الأمر الذي سمح للعديد من القوى الشعبوية في العالم بالعزف على أوتار المشاعر الدينية، وبتوظيف العقائد كأداة من أجل خدمة أجنداتها السياسية.

ويشير الباحث السياسي، فرانسوا مابيل، إلى أن العنصر الديني بات دائم الحضور في المرحلة الراهنة، ويكفي أن نلاحظ ما يحدث من تطورات على مستوى الجائحة التي يعرفها العالم، فقد بعث الأمين العام للأمم المتحدة رسالة للسلطات الدينية في العالم من أجل المساهمة في مكافحة الوباء، بعد أن وجدت الحكومات نفسها في أمسّ الحاجة إلى مساعدة النخب الدينية من أجل تقييد الحريات العامة، وتنفيذ إجراءات الحجر الصحي، لاسيما في المجتمعات التي يمثل فيها الوعي الديني أداة رئيسية في عملية التأثير في سلوكات الأفراد، وقناعاتهم.

ويمكننا أن نلاحظ أن حضور الدين في المعترك السياسي في الدول الغربية يختلف من دولة إلى أخرى، فإذا كانت فرنسا تتعامل بحذر شديد مع الدين انطلاقاً من تراثها العلماني الصارم الذي ترسّخ نتيجة لأسباب تاريخية تتعلق بالحروب الدينية، لاسيما وأنها تعتبر أن تدخل الدين في المجال السياسي العمومي يشكل مخاطر كبرى على مؤسسات الدولة الجمهورية؛ فإن التعامل مع الدين في دول شمال أوروبا، وأمريكا يتسم بسلاسة كبيرة، حيث تعمل هذه الدول على إدماج الفاعلين الدينيين على اختلاف انتماءاتهم في النسق الاجتماعي، وفي النقاشات التي يشهدها المجال العمومي لتحقيق توازن أكبر بين الأفراد داخل النسيج المجتمعي؛ وهناك دول في أوروبا الشرقية تعمل على توظيف الدين كجزء من قوتها الناعمة، كما هو الشأن مع روسيا التي تسعى إلى فرض زعامتها على أتباع الكنيسة الأرثوذوكسية في مناطق عدة من العالم.

وقد عادت الظاهرة الدينية إلى ممارسة تأثيرها بشكل تدريجي في السياسات الداخلية للدول، وفي سياق العلاقات الدولية في النصف الثاني من القرن الماضي، وشهدت حضوراً لافتاً في مرحلتي السبعينات والثمانيات من القرن نفسه، مع سقوط نظام الشاه في إيران، والاجتياح السوفييتي لأفغانستان، ومع توظيف المقاومة الكاثوليكية بقيادة القديس جان بول الثاني لمحاصرة المد الشيوعي؛ فضلاً عن الأزمة التي شهدتها دولة الرعاية في أوروبا، واتساع حركة تنقل الأشخاص، إضافة إلى انتشار الأفكار الثقافية، والدينية، التي كان من نتائجها عودة الظاهرة الدينية إلى التأثير بشكل لافت، لاسيما في سياق دخول المجتمعات كفاعل رئيسي في العلاقات الدولية، كما يقول برتراند بادي، إلى جانب الدول الوطنية التي تراجع دورها في بعض المناطق مع ظهور «دول افتراضية»، مثل تنظيم «داعش».

ويمكن القول إن الدين استطاع أن يدخل مجدّداً إلى معترك السياسة مع نشأة الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا، ومع تأسيس أحزاب إسلامية في العديد من الدول العربية، والإسلامية؛ ولكنه دخول لا يحمل الدلالات نفسها في السياقين الغربي، والإسلامي. ففي اللحظة التي التزمت فيها الأحزاب المسيحية في أوروبا بالطابع المدني للدولة، ولم تعمل على احتكار المجال العمومي لمصلحتها نتيجة لاستيعابها لقيم الحداثة، وقبول رجال الدين فيها بحرية الضمير، والمعتقد؛ فإن الأحزاب الدينية في الشرق حاولت أن توظف حضورها السياسي من أجل الهيمنة على المجال العمومي، انطلاقاً من شعار الإخوان «الإسلام دين ودولة وسيف وقرآن»، الذي يرفض الاعتراف بمبدأ الفصل بين السلطات، وبين الديني والدنيوي، الذي يؤكد عليه نسق الدولة الحديثة.

نخلص في الأخير إلى أن أهم خاصية تميّز الحضور الديني في المرحلة الراهنة، تكمن في اعتماد الأنظمة الشعبوية في العالم على الدين من أجل تثبيت سلطتها، وهيمنتها على المجتمع، سواء في أمريكا مع إدارة ترامب، والبرازيل مع بولسنارو، أو الهند مع مودي، وتركيا مع أردوغان؛ وبالتالي فإن التوظيف غير العقلاني للدين على المستوى الدولي يسهم في أحايين كثيرة في تأجيج صدام الحضارات، بدل ترسيخ قيم التسامح، وحوار الأديان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"