«الإنسان الفاعل» ضد العنف

03:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

ثمة حاجة فكرية رئيسية للنظر إلى العنف بوصفه نظاماً، سياسياً، ومؤسساتياً، ولغوياً، وهذه الحاجة تقتضي تفكيك خطاب العنف.

في مواجهة، وإلى جوار، مفهوم «الإنسان الصانع»، أي الإنسان المنتج للوجود والمفاهيم، وضعت الباحثة الألمانية حنا أرندت (1906-1975)، مفهوم «الإنسان الفاعل»، وذلك انطلاقاً من محاولتها تفكيك طبيعة النظام السياسي الشمولي من جهة، وإعادة الاعتبار لمفهوم الحرية، خارج السياق الكلاسيكي الفلسفي، والذي جعل الحرية تقيم في العقل والشعور واللغة، بعيداً عن الفضاء العمومي، وتبدو الحاجة اليوم ملحّة، على المستويات كافة، وخصوصاً بالنسبة للعالم العربي، من أجل ترسيخ الفاعلية، كنقيض للعنف.

ثمة حاجة فكرية رئيسية للنظر إلى العنف بوصفه نظاماً، سياسياً، ومؤسساتياً، ولغوياً، وهذه الحاجة تقتضي تفكيك خطاب العنف، أو الخطابات المؤسسة على العنف والمؤسسة له، لكن هذه الحاجة إلى تفكيك خطاب العنف تواجه على الدوام مشكلة معرفية، وهي الابتداء والانتهاء عند العنف كخطاب وفقط، أي الاكتفاء بنقد الخطاب، لأن هذه المحاولة التفكيكية / النقدية، وعلى الرغم من أهميتها، يمكن أن تجعل من المشكلة تبدو وكأنها مشكلة خطاب، حتى مع الاعتراف بأن كل خطاب هو سلطة، فما هو مهم، بل وأساسي، في التقدم، هو إعادة بناء الفضاء العمومي ومؤسساته.

ليس الفضاء العمومي مسألة خاصّة بالنخب، حتى لو شكّلت النخب قاطرة وازنة في هذا الفضاء، في إطار تثبيت أركانه، أو في إطار خلخلتها، بل هو مسألة مجتمعية عامة، تتجاوز، بل يجب أن تتجاوز، الأطر الاستقطابية الأيديولوجية والعقائدية والطبقية، فمحددات الفضاء العمومي تنعكس على مختلف الفئات والأفراد، ومحددة للنظام السياسي، ومدى قدرته على استيعاب المختلف، ونزع كل ممكنات الهيمنة، التي يمكن أن تحوزها فئة ما، من خلال الثروة، أو النفوذ السياسي، أو الإرث التاريخي لقوى وأفكار محددة.

بناء الفضاء العمومي القادر على تفكيك أي ممكنات لتنامي العنف، يحتاج إلى إعادة موضعة لمفهوم الحرية في المجتمع، مع قدر كبير من استقلالية هذا المفهوم عن القيود الفلسفية، أي تنزيل هذا المفهوم من برجه الفلسفي إلى أرض السياسة، بحيث تكون ماهية الممارسة السياسية هي الحرية ذاتها، وهو أمر لا يمكن تحققه من دون «الإنسان الفاعل»، في مواجهة تحوّل النخب إلى منتج دائم للعنف، تحت مسميات مختلفة، من بينها مسمى الحرية نفسه، في مفارقة أصبحت عابرة للقارات، حيث أصبحت أكثر الأنظمة ليبرالية هي أكثرها إنتاجاً للعنف، أو مشاركة في ترسيخه، أو داعمة للأنظمة الشمولية.

إن جوهر كل ممارسة عنفية هو حيازة القوة من قبل طرف من الأطراف في المجتمع والسياسة، وفي الأنظمة الشمولية، يصبح تغييب الفاعلية أمراً ضرورياً لاستمرار الهيمنة، وذلك عبر احتكار العنف نفسه، وتحويل الإنسان إلى مجرد «الإنسان الصانع»، بوصفه منتجاً للوجود المادي، وليس بوصفه منتجاً للمفاهيم، أو مشاركاً في بناء الفضاء العمومي، أي عزله عن كل إمكانية للتعبير عن حيثياته المختلفة، وتأطيره في نظام بأهداف محددة ومدروسة لاستمرار هيمنة النخب.

وإذا ما أردنا الانتقال من الحقل النظري إلى الواقعي، بل وتخصيص هذا الواقع في العالم العربي، فإن أي باحث متخصص في مجال التنمية يمكنه رصد عشرات الخطط التنموية العربية، والتي انطلقت منذ عقود، في معظم الدول العربية، ووصلت أغلبيتها إلى أفق مسدود، فقد بقيت كل تلك الخطط التنموية تحت سقف محدد، هو سقف هيمنة النخب، وعدم إفساح المجال أمام مشاركة الفئات والأفراد في بناء الفضاء العمومي، أي أنها باختصار وتكثيف، بقيت تلك الخطط التنموية خططاً كمية، بعيداً عن أي مقاربات نوعية لضرورة تفاعل القضايا التنموية مع قضايا الحرية والعمل السياسي.

هناك هروب دائم إلى الأمام من قبل النخب في معالجة العنف، حيث توجد عملية تبني لمفهوم «ممارسة السياسة» بوصفه «ضمان السلم والأمن الاجتماعيين»، وهو مفهوم على الرغم من أهميته، إلا أنه يبقى مفهوماً تقنياً، وفضفاضاً، لأنه يكتفي بجوانب محددة، مثل الاكتفاء الغذائي، وتأمين الموارد المالية للدولة، وتحقيق الاستقرار الأمني (الوطني والجنائي)، وغيرها من القضايا ذات الصلة بمفهومي السلم والأمن، لكن يبقى السؤال حول فشل المعالجات هو السؤال الأهم، إذ أثبتت التجارب الواقعية أن الأمن والسلم الاجتماعيين لا يتحققان من دون مشاركة فعالة لجميع القوى الاجتماعية، ليس بوصفها كتلاً اجتماعية وحسب، بل بكونها تقوم على الإنسان الفاعل، الذي تشكّل فاعليته السياسية القائمة على الحرية الضمانة الأكبر والأهم ضد العنف بكل أشكاله ومستوياته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"