شوار ع من فسيفساء

03:49 صباحا
قراءة 6 دقائق

يوسف أبولوز


(1)

تتثاءب مأدبا عند الضحى تحت شمس حنونة وأرسلت جدائلها الذهبية نحو حقول القمح والذرة والشعير في أرض حمراء تتنفس، منذ الفجر، تحت الضباب والغيوم.

في طفولة المدينة، وكان ذلك، في أوائل الستينات من القرن العشرين كنا نبيع البامياء الشابة الخضراء في سوق شعبية صغيرة كانت أشبه بالمكان العائلي للفلاحين والمزارعين القادمين إلى المدينة من القرى المجاورة. هنا يبيعون خضارهم وفواكههم، وفي سوق أخرى يشترون عناقيد الموز القادم في شاحنات صغيرة من الغور الأردني، وفي السوق أيضاً تنتشر رائحة الجوّافة، ويملأ المكان عبق البرتقال إلى جانب أخيه الليمون.

.. مأدبا مدينة خرائط الفسيفساء، وأجراس الكنائس، ومنارات المساجد؛ حيث يعانق صوت الأذان جرس الكنيسة؛ وحيث يتأنسن كل شيء: الكائنات الحية، والجمادات، والشمس التي تأخذ في الارتفاع عند الظهيرة، وهي في طريقها، فوق مأدبا، إلى المغيب القريب من الجبال التي تأخذ صورة هياكل بشرية أو حيوانية، مرعبة، لكنها، ليست مؤذية.

(2)

ربّة عمّون، فيلادلفيا، عمّان.. أكثر من اسم لمدينة واحدة قائمة على سبعة جبال، مثل أعمدة الحكمة السبعة. أما نهار الشاعر في العاصمة الجبلية، فإنه يبدأ من ساحة المسجد الحسيني قبالة أسواق الفضة والمسابح والأمشاط.. في محاذاة سوق العطّارين.. مروراً بكشك «أبو علي» لبيع الكتب الصادرة للتو.. والمعلقة على حوائط الكشك مثل تذكارات من ورق.

من شارع السلط وسط البلد إلى رأس الشارع، ثم العودة عكسياً هذه المرة إلى مقهى هيلتون وقهوة السنترال.. هذه هي طريق الشاعر اليومية في المدينة التي يعرفها شعراء الستينات والسبعينات والثمانينات أكثر من شعراء اليوم الذين يحثون الخطى مسرعين إلى «اللا شيء»، وهم يعبرون من وسط البلد إلى أكشاك الكتب والمطاعم وعمال الثياب والأحذية.. وقبل ذلك كانوا مروا في سوق البالة؛ حيث الملابس القديمة التي كان ارتداها بشر آخرون من أصقاع هذا العالم المترامي الأطراف.

لكل مدينة وسط.. هو وسط البلد، ولكل مدينة مجنون، ولكل مدينة مترفوها ومتسكعوها ومتسولوها.. ولصوصها أيضاً.. وإلا لا تكتمل المدن بهذه العناصر المرئية أحياناً، وأحياناً اللامرئية، خصوصاً عندما يهبط الليل، ويتحول وسط البلد إلى طلل، وأسفلت بارد تركض عليه عربات آخر الليل.

(3)

تبحث في دمشق عن دمشق الثمانينات فلا تجد إلا بقايا من ياسمين يتيم، وبالقرب، بردى ينظف مجراه من الدموع الصغيرة.. أما الضفاف فقد أخذت تيبس وتغطي عريها بورق شجري أصفر.

كان لا وسط لدمشق، أين البلد؟ وأين وسطها؟.. وأين شعراؤها؟.. وأين ذلك الضحك العارم الذي كان يطلقه علي الجندي وممدوح عدوان في الليل من مطعم اتحاد الكتاب العرب، فيسمع من يجلس في «الهافانا» بالقرب من شارع الصالحية ضحك الشاعرين الدمشقيين حتى لو أتى عدوان من قرية مصياف إلى العاصمة، وحتى لو أتى الجندي من قرية سلمية إلى مدينة الياسمين.

إلى الآن، ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً على ذلك الطبق الحلواني في ساحة المرجة قبل الوصول إلى المسجد الأموي لم يذهب طعم تلك الكنافة الدمشقية في مطعم صغير كما لو أنه «اخترع» هكذا صدفة في شارع مدجج بمحال القماش والذهب والفضة.

تبحث في دمشق عن دمشقك، وعن ياسمينك العتيق، وعن لياليك ونهاراتك العتيقة، فلا تجد إلا هذه الأكوم الغريبة من البراميل.

(4)

.. وتبحث، أيضاً في بغداد عن بغدادك أنت، لا بغداد الحشود، والطائفيات العابرة للحدود، والقتل اليومي المجاني وضحي الليل والنهار، فلا تجد إلا بقايا انهدام نحتية جواد سليم، وشحوب شارع المتنبي، والفرات الذي لم يعد فراتاً..

في أوائل ثمانينات القرن العشرين كان مهرجان المربد الشعري اسماً آخر من أسماء بغداد؛ وكان الليل البغدادي ليل شعراء العرب في ديوانهم العراقي من طنجة إلى مدينة النخيل الذي تغمق خضرته في المساء حتى يتحول إلى ليل أخضر.

.. والآن، وأنت تكتب عن بغداد تتذكر يوسف الصايغ.. أحد أرواح بغدادك التي بدت لك آنذاك بلا وسط.. فكل بغداد بلد.. أما صاحب «سيدة التفاحات الأربع»، فأنت دائماً تحتفظ له بأيقونة صغيرة:-

«شهداء عشرة

نزلوا

يوم إجازتهم للبصرة

أربعة منهم كانوا مدعوين

لحفلة عرسٍ في (العشّار)

أربعة... ذهبوا لزيارة جرحى معركة الأهوار

وتبقى اثنانْ

الأول راح يفتش في البصرةِ عن دارْ

في يده باقة أزهار

والثاني ظل وحيداً

فأدار عن البصرةِ.. وَجْهَهْ

ومضى ثانية.. للجبهة».

(5)

من ظواهر بيروت الستينات والسبعينات إنها كانت عاصمة الكتاب العرب.. هذه المدينة التي لا تمل من التماهي الأبدي مع البحر الأبيض المتوسط جاء إليها في تلك السنوات شعراء من بغداد، ودمشق، والخرطوم، والقاهرة، وعمّان.. لم يأت إليها الشعراء فقط؛ بل، شد الرحال إليها روائيون وفنانون وصحفيون وسياسيون، وإن لم تكن قد شربت من «سويسرا العرب» آنذاك، فإن لياقتك الشعرية أو الثقافية ناقصة، وتحتاج إلى تمرين.

بيروت كانت ذلك التمرين، وفيها عن قرب تعرف اللياقة الإنسانية العامرة بالمحبة لشعراء من مثل: جوزيف حرب، وأحمد فرحات، ومحمد علي شمس الدين، وغيرهم، من نحاتي الشعر، لكن من مادة الماء، وليس من مادة الحجر، أو أنه الحجر الذي يجري فيه الماء.

بيروت، كانت خيمة الفلسطيني الأخيرة أيضاً، وكان شارع الحمراء شارع الشعراء بحقائبهم المعلقة في أكتافهم وقصائدهم المؤثثة بالغناء.. وأنت ذات يوم تشرب القهوة في الشارع إياه، وتتلفت حولك:.. لا شعراء ولا حقائب... حتى مقاهي زمان هاجرت إلى أمكنة ضيقة في بيروت.. ولكنها بيروت، تظل بيروت. المدينة التي تنقط شعراً حتى لو تذمر أهلها منها.. وحتى لو غادر الشعراء من «متردم».. في زمن بيروتي آخر، يسيطر عليه الطائفي المعَمم بالأسود.. حتى بدا البحر أسود.

(6)

ينتبه محمود درويش إلى أسراب؛ بل أكوان الطيور المليونية اللائذة إلى الأشجار في شارع بورقيبة في العاصمة تونس لتأوي إلى نومها المبكر، لكن قبل ذلك تتشارك طيور الشارع في تأليف سيمفونية جماعية من أصوات الطير، وأسفل الأشجار تمتد على طول الشارع إياه متواليات متجاورة من المقاهي، كأن الشعب كله في المقهى.

.. نعم.. تونس شارع بورقيبة هي أيضاً تونس شارع المقاهي المعمورة بالشعراء، والعمال، والموظفين والعاطلين عن العمل، والعاطلين عن الحزن، عندما ترى التونسي، وقد علق في أذنه عِرْقاً أبيض من الياسمين، وقد انكب على لعب الورق أو النرد.. غير مصغ إلى سيمفونية الطير في الخارج.. أو أنه لا يسمعها، فالاعتياد على صوت يلغي الإصغاء، كما الاعتياد على مشهد في حد ذاته يلغي الرؤية.

تونس، أيضاً مدينة الرقة المتجددة والصداقات الدافئة.. مدينة الإنسان الذي يحب الشعر، ويصغي إليه، ويميزه عن غيره من الخصوصيات التي تمس قلبه..

تونس خضراء، وقلب التونسي أيضاً أخضر، اسم على مُسمى. أو أن التونسي يأخذ شيئاً من طبيعة مدينته..

تونس.. باب البحر، وأسواق الحرير، وحقائب الجلد، والنساء الشبيهات بالمرأة التي تدفقت كلها ذات يوم في عروقك الشابة.

تونس.. الطعام العائلي الشعبي في بيت صديق يأخذك من المطعم الأوروبي.. إلى مطبخ زوجته التي تصنع طعاماً مثلما تكتب قصيدة نثر.. ثم تفتح النافذة وهذه المرة يشير الصديق إلى الشارع المؤثث كله بالطيور.. هنا سيمفونية تونس الخضراء.

(7)

ما يشبه الدورة الدموية «اليومية» تلك التي تأخذك «على كفوف الراحة» من فندق الماريوت في الزمالك إلى ميدان التحرير في القاهرة.. هنا «وسط البلد» حقيقي.. بؤرة عاصمة. مركز دائرة. ومروحة من الشوارع تحيط بالميدان.. وتصب فيه.

أصوات أهل القاهرة. روائح طعامهم الذي يبدأ منذ الصباح الباكر، وحتى الليل المتأخر. أصوات وروائح وألوان. جدعنة وفهلوة ونكات متناثرة على الأرصفة كما على الأرصفة جرايد وكتب وباعة ونائمون، ومتسولون، وعباقرة في ثياب شعراء يجلسون في مقهى ريش، واستوريا؛ حيث التاريخ الرسمي لوسط البلد.. أما النيل فهو النهر الذي يتحرك بطيئاً في قلب القاهرة مزهواً بالجسور المتقوسة على ظهره، وغير عابئ بالمعمار العالي حول حيزه المائي، وأنت تكتب قصيدتك في «ريش»، لكن ببطء هذه المرة، فلكل قصيدة إيقاع، تماماً مثل المدن.. لكل مدينة إيقاع، وإيقاع القاهرة: فَعِلُنْ، فَعِلُنْ، فَعِلُنْ، فَعِلوا.. المتدارك أو الخبب أو السريع.. لا فرق. إنها القاهرة التي تبدو أنها لا تنام، وإذا نامت تصحو مبكراً، وأنت مبكراً تجلس في شرفة غرفتك في الماريوت.. عند الخامسة صباحاً مع طلوع الشمس تستقبل النسمة القاهرية، وتراقب النيل.. خيط الماء الفرعوني الأول، المسافر النهري الأبدي من غموض إفريقيا، وإلى وضوح البحر الأبيض المتوسط.

(8)

باريس.. قصيدة من البيوت النابليونية، ومقاهي الرصيف، وأجملها، تلك المقاهي التي تقع عن أكواع الأرصفة.. مقاهي (الكيرف) إن جاز الوصف، ومرة ثانية، كما رأيت في تونس وفي غيرها من مدن.. كأن الفرنسيين يسكنون في المقاهي لا في بيوت.

ستقرأ شعراً في باريس، وتتذوق درجات الحرارة تحت الصفر على مهل، وتأكل ما استطعت من أنواع الجبنة الباريسية الشابة.. وكل شيء في باريس بدا لك شاباً في أسبوع واحد لا يكفي حق عاصمة الأنوار التي ذهل بها جدنا الأول رفاعة الطهطاوي ولخصها بلغة عربية كاملة الدسم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"