قرى عربية في ثياب جديدة

03:46 صباحا
قراءة 4 دقائق
القاهرة: «الخليج»

في كتابه «زمن الرواية»، يذكر د. جابر عصفور، أن الرواية العربية هي فن المدينة الحديثة، التي تدخل عالم التصنيع، وتبدأ علاقاتها البشرية وعناصرها المكانية في التعقد، وتغدو ساحة يتولد فيها التغيير، الذي تتحرك آلياته داخل شبكة من أدوات الإنتاج وعلاقاته وقواه، إنها الفن الذي تتقابل فيه الطبقات في فضاء المكان المديني، وهنا فإن ارتباط الرواية العربية الحديثة بالمدينة، هو ارتباطها بالفضاء الذي تولدت منه، وتشكلت به، وظلت تحمل بصمات تحولاته وصراعاته في رحلتها الطويلة.

تعد لندن من أشهر المدن التي عملت عليها الرواية، فقد قضى رائد الرواية الكلاسيكية تشارلز ديكنز حياته في لندن، وهو يجمع في ذاكرته صور المدينة المختلفة، لتكون عوناً له في التعبير عن كتابة الرواية، وأغلب روايات ديكنز تعد نموذجاً لجميع روايات القرن التاسع عشر الأوروبية- على حد تعبير د. محمد شاهين في مقاله «الرواية هوية تبحث داخل المدينة عن أوراق ثبوتية»، تبدأ هذه الروايات عادة بمشروع كبير، يتسم بأحلام الشباب وخططهم المستقبلية، موجهين أنظارهم نحو المدينة، وكلهم آمال عريضة في تحقيقها، وغالباً ما تكون النتيجة فشلًا ذريعاً وخيبة أمل، والمعروف أن كتاب الرواية نظروا إلى النظام الرأسمالي، الذي جاءت به الثورة الصناعية، بوصفه قوة قاهرة للفرد، وبهذا نجد الشخصية الروائية تبدأ برغبة، تلح في البحث عن ميلاد جديد، متوهمة أن المدينة ستكون مسقط رأسه الجديد، لكن هذا ينتهي بالحرمان من تحقيق الرغبة.

طوال مسيرة التاريخ الروائي، كان لكل روائي مدينته، فقد ارتبط بلزاك بباريس، مثلما ارتبط نجيب محفوظ بالقاهرة، لم يغادر حاراتها وأزقتها الضيقة، طوال عمره الإبداعي، لكن قارئ جيمس جويس في عوليس حسبما يرى البعض كان عليه أن يحمل معه خارطة «دبلن»، ليتتبع خطى بطل الرواية، في أنحاء المدينة، ويرى كيف أن المكان أصبح مسرحاً لتموجات حياته الداخلية، التي امتزجت بمعالم المدينة الخارجية، وفي العقد الأول من القرن العشرين اختار الروائي «ى. م. فورستر»، أن يرحل بشخصيات رواياته إلى اليونان أو إيطاليا، لكن الرحيل الأكبر كان إلى الهند، ومن الروايات المشهورة في هذا الصدد «رباعية الإسكندرية»، للإنجليزي لورانس داريل، التي تصور الحياة السياسية في الإسكندرية، وتبدأ الأحداث بفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وتمتد بعدها إلى الخمسينات والستينات.

يتساءل د. محمد شاهين: أين تقع الرواية العربية من المدينة؟ والإجابة تكمن في أن المدينة في العالم العربي مجرد حيز يتوق إليه الراوي، ليتنفس فيه الصعداء، ويتحرر من ضيق المكان في القرية، أو فيما يسمى المدينة، وهي في واقع الأمر لا تزيد على قرية أو بلدة ازدحمت بالسكان، أي أن المدينة العربية، مقارنة بالغربية، تخلو من التعقيدات التي طرأت على المدينة الغربية الصناعية، عبر ما يقرب من قرنين من الزمان، وربما هذا ما هيأ للروائي الغربي أن يكتب رواية معقدة، لا يمكن أن تجد موازياً لهذا التعقيد في الرواية العربية، التي لا تزيد مدينتها عن تجمع سكاني، ظلت أغلبية الوافدين إليه محتفظة بمحليتها الريفية، حتى بعد استقرارها في المدينة.

باب الحرب

المدن كلها ليست سواء، وبالتالي لا تتفق الروايات حول الدخول إلى المدينة من باب معين، هذا ما تكشف عنه الروائية اللبنانية علوية صبح، حين واجهت السؤال: عن أي مدينة أكتب؟ وكيف وأنا لم أعش حالة مدينية كاملة مضيئة في مجتمع مدني سليم؟ تقول: «أنا المولودة في بيروت، عشت حروبها وتهجيراتها، وجدت نفسي أوائل العشرينات من عمري، في خضم حرب شوارع، تكسر فيها حلمي بمدينة علمانية، رسمها لي وعيي السياسي والإنساني، مدينة شهدت انهيار الحلم بالحداثة، على مختلف المستويات، حتى الثقافي منها، وانهيار حالة مدينية كانت مشعة، مدينة أغلقت كل أبوابها في وجهي، ووجه جيلي، ولم يبق فيها سوى باب وحيد مفتوح، هو باب الحرب».

عن أي مدينة إذن تكتب علوية صبح؟ تكتب عن مجتمع متذبذب وذاكرة يملأها الخراب والعنف والانهيار، تكتب وكل شيء يغري بمحو الذاكرة، التي صارت الحروب والقتل والدماء والنسيان تملؤها، تكتب كأنها تخترع حكايات تنجيها من محو الذاكرة، فيما المدن تنقرض كانقراض الحريات، ومسح الهويات التاريخية والإنسانية، واستبدالها بهويات ممسوخة.

كان المؤرخ العراقي علي الوردي يقول إن «بغداد كلما أعادت بناء نفسها كمدينة كانت تقتحم من الجماعات المقيمة في خارجها فتنتكس، وتعود خراباً من جديد»، هذا المعنى تحمله مدن عدة، وربما هذا ما أعاق التطور الطبيعي لمدننا العربية، لكن أغلب الروائيين تماهوا مع روح مدنهم، ومع ناسها وعمرانها وصخبها وأفراحها ومآسيها المخفية والمعلنة، من أجل أن يكتبوا سطوراً لا تنتهي، عمّا يربطهم، قلباً وجسداً، بتشكيلات الحجارة الهندسية، التي ملكت نفوسهم، دون أن يعلموا السبب، وهكذا فإن علاقة الرواية بالمدينة هي علاقة تبادل وجود، علاقة متناقضة ومتشعبة، وحين اندثرت تلك المدن، بقيت الصور في الروايات حية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"