قواعد الحفر وراء المعلومات

03:29 صباحا
قراءة 5 دقائق
 القاهرة: مدحت صفوت

تُعنى كتابة التاريخ في المقام الأول، وطبقاً للدراسات التاريخية الحديثة، بإظهار كيف كانت الأشياء في الواقع، وثمة جدل كبير حول ما يمكن أن تشير إليه العبارة السابقة، وعن القدرة في تقديم صورة دقيقة أو أقرب إلى الدقة فيما يخص جوهر الماضي وأحداثه.

في الوقت الذي تشهد فيه البشرية تطوراً سريعاً ومتلاحقاً في مجال العلوم التطبيقية ومجالات التطور التكنولوجي، يطفو من جديد السؤال عن أهمية دراسة التاريخ، خاصة أن معظم دارسي التاريخ لا يدرسونه من أجل الحصول على وظيفة معينة، وكونه ليست مادة «وظيفية» أو مهنية، ورغم التبريرات التي يسوغها المؤرخون حول أهمية التاريخ في فهم الماضي ومن ثم الاستفادة به في الحاضر، أو ما يشير إليه المؤرخ الإنجليزي «آرثر مارفيك» من سد احتياجات معرفية ونفسية، فإن السؤال عن أهمية التاريخ في بعض الأكاديميات يبدو أن له وجاهته.

مهارات

لكنّ الأمر غير الملموس هو السؤال عن المهارات والسمات التي يجب أن تتوافر في كاتب التاريخ «المؤرخ»، والباحث في الدراسات التاريخية، وما يتطلب الأمر من مهارات محددة للكتابة، وما يحتاج إلى موهبة فحص الحقائق وصبها في شكل كتابي.

وفي دراسة بعنوان «مهارات المؤرخ وصفاته الذهنية» يذهب الباحثون «جيف تيمينز وكيث فيرنون وكريستين كينالي»، إلى أن المهارات أصبحت مسألة لا مفر منها في الدراسات العليا المعنية بإنتاج وتخريج الباحثين في المجالات المتباينة، ومن بينها مجال التأريخ وإعداد المؤرخين، فكون الفرد دارساً للتاريخ لا يعني هذا إمكانيته للبحث والكتابة التاريخية، أو لا تعد الدراسة الشرط الوحيد، ففي مراحل ما بعد الدارسة تأتي عملية صقل المهارات وبناء القدرات المطلوبة لممارسة أي عملية معرفية أو بحثية.

من جهته، يشدد المؤرخ الأسترالي كريستوفر كلارك على وجوب أن يكون المؤرخ قادراً على تنظيم أدلته، وفحص الوثائق وكشف تحيزها المعلن أو المضمر معاً، فالوثائق التاريخية ليست أدلة مجردة من الانحيازات على أي نحو. وفي كتابه «The Sleepwalkers» يضرب كلارك مثالاً على فحص الوثائق بسجلات الحرب العالمية «الرسمية» التي سبق أن تداولها الباحثون في مؤلف ضخم يحمل عنوان «السياسة الألمانية العظمى»، ورغم أن عدد هذه الوثائق وصل إلى 889 وثيقة، لكنّ القائمين على العمل البحثي والتأريخي لم يتمكنوا من وضعها ضمن أهداف علمية محضة، ليبدو في نظر كلارك أن «إعادة صياغة أي حدث تاريخي من خلال تتبع المسارات التي تناولت الحدث ذاته، مهمةٌ صعبة».

هنا، يفتح «كلارك»، الذي يعمل أستاذاً في جامعة كمبريدج، الباب للسؤال الدائم في قاعات البحث التاريخية عن فائدة كتابة حدث تاريخي سبق أن أُرخ له، فيحكي المؤرخ الأسترالي أنه - وخلال محاضرة- سُئل «مع وجود الآلاف من الكتب حول وثائق الحرب العالمية الأولى، لماذا نحتاج إلى كتاب آخر؟»، إنها الرغبة في استكشاف انحيازات الوثائق وما أضمرته طوال السنوات الفائتة.

ثلاثة مسارات

بالعودة إلى دراسة «مهارات المؤرخ وصفاته الذهنية» يحدد المؤلفون ثلاثة مسارات أساسية حول ما يجب توافره في شخصية المؤرخ وقدراته، أولها «مهارات وصفات العقل التاريخي» وملخصها في القدرة على فهم كيفية تعايش البشر وسلوكهم وتصرفاتهم في سياقات مختلفة وسحيقة، بجانب القدرة على قراءة النصوص والمصادر على نحو نقدي، وتقدير تركيب الماضي وتعقيداته مع فهم المشاكل المتأصلة في السجل التاريخي، والوعي بمخاطر التفسيرات المختزلة والتبسيطية.

وضمن المسار الأول، يشدد المؤلفون على مهارات أساسية كإدراك عدم تساوي دلالات العبارات المختلفة الواردة في النصوص، والنبش عن الأسباب التي دفعت المؤرخ القديم لاستعمال عبارة ما دون غيرها ومن ثم التأصيل لقواعد الكتابة التاريخية عند هذا المؤرخ لفهم الأبعاد التي يصبو إليها من وراء كتابته للتاريخ.

وكون دراسة التاريخ وكتابته عملية معرفية وبحثية، فبالتأكيد يتطلب من الدارس العمل على توافر «مهارات عامة»، منها تحديد المهام، وحل المشكلات، وصياغة الأسئلة، وقد نشدد هنا أن الصياغة السليمة والمنطقية للسؤال تمثل نصف الإجابة، فضلاً على مهارات جمع وغربلة واختيار وتنظيم الأدلة، وصياغة الجدل المعرفي في إطار جاذب وقادر على استلاب القارئ.

أما بالنسبة للمسار الثاني، فيشير إليه الباحثون بالمهارات الأكاديمية في إطارها الواسع، مثل التي يكتسبها الدارس من التخصصات المعرفية المتداخلة مع التأريخ كدراسات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، ومعرفة اللغات، والدراية بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ثم يأتي المسار الثالث الذي يخص المهارات العامة، كالانضباط والتوجيه الذاتي والقدرة على العمل مع الآخرين والنزاهة الفكرية وغيرها.

سمات أكاديمية

ومع انتشار السؤال حول سمات المؤرخ وصفاته، عملت بعض الأكاديميات إلى عقد حلقات النقاش أو إصدار البيانات العلمية التي توضح ما يجب أن يتمتع به المؤرخ، الذي لم يعد ذلك الرجل صاحب اللحية الكثيفة والمتجول من بلد إلى آخر يدون في قراطيسه ما يشاهده رأي العين أو ما يصل إلى مسامعه بالرواية الشفهية.

فحسبما ورد في كتاب «مهارات وبنية منهج التاريخ» لعدد من الباحثين والصادر 2000، تشدد جامعة بريستول البريطانية، على وجوب قدرة الملتحق ببرامج دراسة التاريخ بخاصة في مستويات الدراسات العليا، على تقييم حجج وأدلة الآخرين من جهة، ومن جهة ثانية بناء حجج متماسكة بطريقة ميسرة ومقنعة. بينما تسعى جامعة شمال كولومبيا البريطانية من برامج دراسة التاريخ إلى أن تؤدي إلى فهم أكثر وضوحاً للحاضر، بالتالي إنتاج مواطنين أكثر استنارة، وهو ما يتطلب مهارات الربط بين اللحظة الآنيّة والعصور القديمة.

يتتبع الكتاب مهارات تعمل برامج الدراسات التاريخية على تنميتها، ففي نيوزيلندا، ينمي قسم التاريخ في جامعة أوكلاند، لدى باحثي الدراسات التاريخية مهارات الحصول على المعلومات وتقييمها. أما في الولايات المتحدة، فأدلى قسم التاريخ في كلية واباش بولاية إنديانا ببيان شامل على نحو خاص عن المهارات، محدداً خمسة أهداف أساسية تشمل اكتساب المهارات التحليلية وصياغة الأسئلة والاستدلال من المصادر الأولية، ووضع المصادر في سياقات أوسع وأشمل، وإنتاج التفسيرات الخاصة والجديدة بالظواهر التاريخية.

وتعمل كلية واباش على تطوير قدرات الباحثين الخاصة بتقدير الفروق التاريخية الناتجة عن التباين الزمني بين مرحلة وأخرى أو بين ثقافة وما يغايرها، كذلك الفوارق الناتجة عن الاختلاف الجغرافي والمكاني للجماعات البشرية، والوعي بالتفسير التاريخي ومدارس التأريخ، الأمر الذي يجعل الكلية تحدد هدفين من وراء برامج دراسة التاريخ وإعداد المؤرخين، الأول فهم كيفية تأثير الأحداث والأفكار من الماضي على الحاضر، والثاني إنتاج باحث كفء وواثق وطليق في المهارات الشفوية والكتابية والجماعية اللازمة للتحدث والكتابة واستكشاف الأسئلة التاريخية.

إذاً، لا بد أن يتوافر في المؤرخ القدرة على التفكير النقدي عن التاريخ، والتأمل والنقاش وتقييم الماضي وصياغة وصقل الأسئلة ورسم خطوط التحقيق، والمعرفة والفهم الممتازين للأشخاص والأحداث والسياقات في الحقب التاريخية المتباينة، فضلاً عن احترام الأدلة التاريخية والقدرة على توظيفها ونقدها في الوقت نفسه، بجانب سمات شخصية كالشغف بالتاريخ والمشاركة الحماسية في البحث عن التصور الأقرب للواقع التاريخي، مما يطور شعور القراء بالفضول حول الماضي وفهمهم لكيفية ولماذا يفسر الناس الماضي بطرق مختلفة، وأخيراً الرغبة في خوض غمار الأنشطة الصعبة، بما في ذلك الفرص لإجراء أبحاث عالية الجودة تتناول موضوعات شائكة ومعقدة ومثيرة في التاريخ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"