حاجة السودان للعلمانية

05:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
كمال الجزولي

لا يجوز فرض أي قيود على المواطنين بالاستناد إلى العقيدة، أو الدين. كما يحظر الاستغلال السياسي للأديان.

يجدر بنا، في السودان، ألا نقلق على مستقبل الثورة، طالما أن ثمة قوى رئيسية ما تنفك تكبر، وتتطور، يوماً بعد يوم، في مقدمتها «لجان المقاومة» التي كانت، بالأمس، وقودها، قبل أن تنجز مليونية الثلاثين من يونيو/ حزيران المنصرم، كخطوة ذات دلالة كبيرة، بلا شك، على طريق «ثورة في الثورة».. ما يستحق أن نقلق لأجله، حقاً، هو أننا نتصرف، أحياناً، كما لو كنا خلواً من أي تاريخ، أو ذاكرة، أو أبسط خبرة. خذ، مثلاً، ارتباكاتنا بشأن الموقف من علاقة «الدولة/ السياسة/ الدين». فما كادت «مفاوضات السلام» تبدأ، حتى استبقها وفد الحركة الشعبية جناح الحلو، باشتراطه تعهد وفد الحكومة الانتقالية بتضمين أي اتفاق سوف يتم التوصل إليه صيغة «العلمانية» كإطار لحكم البلاد، وإلا أوقفوا مشاركتهم في المفاوضات، ورفعوا مطلب «تقرير المصير». فما هي الحقيقة حول ضرورة اشتراط هذا المصطلح بالذات، كما لو كان المطلوب إعادة اختراع العجلة؟

للإجابة، ثمة وقائع معينة يلزمنا أخذها في الاعتبار، لكونها تمثل بعض تاريخ التواثق القريب بين أطراف المعارضة، بشقيها السياسي، والمسلح، في شأن خياراتها حول هذه المسألة تحديداً، على النحو الآتي:

خلال الفترة من 26 يناير/ كانون الثاني، إلى 3 فبراير/ شباط 1992م عقدت قيادة «التجمع الوطني الديمقراطي» الذي اعتبر أكبر تحالف للمعارضة، آنذاك، الدورة الثانية من اجتماعاتها، في لندن، بمشاركة القوى الحزبية كافة، بما فيها الحركة الشعبية/ الجيش الشعبي بقيادة قرنق، إضافة إلى المؤتمر السوداني الإفريقي، والقوى النقابية، والقيادة الشرعية للقوات المسلحة، والشخصيات الوطنية. في ذلك الاجتماع تمت إجازة «دستور انتقالي» يفترض أن يحكم السودان خلال فترة انتقالية تعقب الإطاحة بالنظام الإسلاموي. وقد اشتمل ذلك «الدستور الانتقالي» على موجهات حول علاقة «الدولة/ السياسة/ الدين» تعبيراً، ولو بالحد الأدنى، عما التقت عليه إرادة الفعاليات المذكورة، وذلك بأن تعامل الدولة معتنقي الأديان السماوية، وكريم المعتقدات الروحية، من دون تمييز في ما يخص حقوقهم، وحرياتهم، ولا يجوز فرض أي قيود على المواطنين بالاستناد إلى العقيدة، أو الدين. كما يحظر الاستغلال السياسي للأديان، وكريم المعتقدات.

وفي 17 إبريل/ نيسان 1993م أصدر التجمع «إعلان نيروبي حول علاقة الدين بالسياسة»، واشتملت أهم بنوده على أن تكون المواثيق الدولية لحقوق الإنسان جزءاً لا يتجزأ من القوانين السودانية، ويبطل أي قانون مخالف لها، ويعتبر غير دستوري. ولا يجوز تأسيس أي حزب على أساس ديني.

وفي يونيو/ حزيران 1995م أجاز «مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية» قراراً حول «الدين والسياسة»، نص على أنه اعترافاً بتأثير علاقة «الدين والسياسة» في بناء الأمة السودانية، وإدراكاً لحقيقة التعدد الديني، والثقافي، والقومي في السودان، واعترافاً بدور الأديان السماوية، وكريم المعتقدات، كمصادر للقيم الروحية، والأخلاقية التي تؤسس للتسامح، والأخوة، والتعايش السلمي، والعدل، وإدراكاً لفظاعة انتهاكات نظام الجبهة الإسلامية لحقوق الإنسان، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، باستغلالها للدين باسم الجهاد زوراً، وتصميماً على إقامة سلام عادل، ودائم، ووحدة وطنية مؤسسة على العدل، والإرادة الحرة لشعب السودان، والتزاماً بمبدأ عدم استغلال الدين في السياسة، فإن التجمع يقر التدابير الدستورية الشاملة لكل مبادئ ومعايير حقوق الإنسان المضمنة في المواثيق والعهود الدولية والإقليمية، بحيث تشكل جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وصدور أي قانون، أو إجراء، بالمخالفة لها يعتبر باطلاً، وغير دستوري.

كما يقر بكفالة القانون للمساواة بين المواطنين على أساس حق المواطنة، واحترام المعتقدات، وعدم التمييز بسبب الدين، أو العرق، أو الجنس، أو الثقافة، ويبطل أي قانون مخالف لذلك، ويعتبر غير دستوري. ولا يجوز تأسيس أي حزب على أساس ديني. وتحترم الدولة تعدد الأديان، وكريم المعتقدات، وتلتزم بتحقيق التعايش، والتفاعل السلمي، والمساواة، والتسامح بينها، وحرية الدعوة السلمية لها، وتمنع الإكراه، أو أي فعل، أو إجراء، يحرض على إثارة النعرات الدينية، أو الكراهية العنصرية. كما تؤسس البرامج الإعلامية، والتعليمية، والثقافية القومية، على الالتزام بمواثيق وعهود حقوق الإنسان الدولية والإقليمية.

وبعد، أفلا يكفي كل ما تقدم لتأسيس «السلام» على تلك الخبرات الفكرية، والصياغات التواثقية، شديدة الانضباط والشمول، والتي من شأنها أن تلم شعث ما قد يكون تشتت مفاهيمياً، أو لحقه العوار، هنا أو هناك، بدلاً من التنازع حول مصطلح «العلمانية» الذي إنْ صلح لحوارات المنتديات الثقافية والفكرية، فلن يصلح للمواثيق والعهود الدستورية؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"