مسألة الدين والدولة

23:52 مساء
قراءة 3 دقائق

 

من أندر الفعاليات التي أستطيع أن أشهد باطمئنان على نجاحها، كوني شاركت فيها شخصياً، ورأيت، مثل الشمس، هذا النجاح وقد تكللت به في كل لحظاتها، الورشة التي انعقدت بين ممثلين لحكومة السودان الانتقالية من جهة، وممثلين للحركة الشعبية لتحرير السودان  شمال، جناح القائد عبد العزيز الحلو، من جهة أخرى، حول «علاقة الدين بالدولة» دستورياً، وذلك بفندق «بالم أفريكا» في مدينة جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان، بمشاركة واسعة من مساعدي الطرفين، وعلى رأسهم مستشار رئيس الجمهورية لشؤون السلام وعدد من الخبراء الوطنيين والأجانب، فضلاً عن الوسطاء، قادة دولة الجنوب، والميسرين، وهم مجموعة السياسات والقانون الدولي العام، والمركز الإفريقي للحلول البناءة للنزاعات، ومستشاري شركاء التنمية.
استغرق هذا الحوار طوال الأيام من 29 أكتوبر إلى الأول من نوفمبر 2020. وعلى الرغم من الشقة التي بدت للوهلة الأولى، واسعة، والسخونة التي وسمت غالب المناقشات، فإن روح الاحترام المتبادل، مع الرغبة الصادقة في التقارب، وفي الوصول إلى منطقة وسطى، هو ما ساد في نهاية المطاف، وطغى، حتى تم الاتفاق على تغليب مفهوم «فصل الدين عن الدولة». ومما ساعد على ذلك، غلبة المستوى الرفيع للمشاركات، والمداخلات والأطروحات والنماذج التي اتسمت بتنوع المصادر، وعمق التناول والموضوعية.
وكانت الحركة الشعبية قد اشترطت في السابق، مطلب تضمين «العلمانية» في أي اتفاق سلام، ومن ثم في أية صيغة دستورية يتم التوافق عليها مستقبلاً، أو منحها حق «تقرير المصير»، حيث إنه لم يتم التوافق معها على ذلك المطلب حينها؛ الأمر الذي ترتب عليه عدم مشاركتها في المفاوضات التي جرت في جوبا بين حكومة الخرطوم، وبين حركات إقليمية مسلحة وغير مسلحة، تمخضت عن التوقيع على ما اعتبر اتفاق سلام في الثالث من أكتوبر المنصرم، فقد تم بوساطة إثيوبية، لقاء في أديس أبابا بين د. عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء الانتقالي، وعبد العزيز الحلو، قائد الحركة الشعبية، بغرض حث الحركة على الالتحاق بذلك الاتفاق، حيث اقترح تنظيم بعض الورش بين الطرفين، كورشة «الدين والدولة» المشار إليها.
من أهم ما عمدت الورشة إلى تقصيه، وما شكل مضمون مداخلتي المفاهيمية النظرية فيها، الدلالة الاصطلاحية التاريخية لمفهوم «العلمانية» بالمصطلح الغربي العام، أو اللائكية، في الطور الفرنسي الخاص، عبر نشأته في الفكر الأوربي مطلع عصر الحداثة، بحقبه الثلاث (النهضة  الإصلاح الديني  التنوير)، كمفهوم أنتجه ذلك الفكر بدلالة تحرير «السلطة الزمنية» من قبضة «الاكليروس الكنسي» الذي ارتبط بمظالم الإقطاع، قبل أن تهب الثورات التاريخية كالفرنسية (1789م)، لتقوض سلطته وتصدر الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن، تحت التأثير المباشر لفلسفة الأنوار. 
على أن عوامل تاريخية محددة دفعت ب«العلمانية»، وخصوصاً طبعتها الفرنسية (اللائكية)، إلى العداء مع «الإكليروس» المتحول  في الذهنية الأوروبية العامة  إلى معادل لمفهوم الدين. 
أما «العقلانية الإسلامية» فيلزم لمقاربتها مدخلان:
أولهما تقصي المعيارية التي لخصها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: «ولانا الله على الأمة لنسد لهم جوعتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن أعجزنا ذلك اعتزلناهم». 
فبهذا لا يمكن تصور «دولة دينية» في الإسلام، بصرف النظر عن ادعائها في التاريخ، أو في دعاوى «الإخوان المسلمين» وحركات «الإسلام السياسي» عموماً. والمنطق القويم الذي يسند هذه المعيارية، هو أنه لو كانت ثمة «دولة دينية» في الإسلام، لكانت هي دولة النبي صلى الله عليه وسلم، من باب أولى، لكن الأخيرة تأسست بيثرب في العام الأول للهجرة، على حرية التنوع «الهويوي»، وفق «الصحيفة» التي هي ما كتبه صلى الله عليه وسلم، بين المهاجرين والأنصار واليهود، حيث اعتبر المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب، ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس، وجعل لكل طائفة من طوائفهم حقوقاً وواجبات، وكذلك اعتبر يهود بني عوف، وبني النجار، وبني ساعدة وغيرهم، أمة مع المؤمنين، لكن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. كما حدد قواعد التساكن العادل في ما بينهم.
وأما المدخل الثاني فيقوم على تفنيد تأويل «الخوارج الجُدد» لمصطلح «الحكم» القرآني، كي يطابق «السلطة السياسية»، متحججين بالآيات الكريمات (44  45  47) من سورة المائدة: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون». 
غير أن التفسير بمناسبة التنزيل يكشف زيف ما يدعون، حيث يجمع الأئمة: كابن كثير والسيوطي والواحدي النيسابوري وغيرهم، على أن هذه الآيات نزلت في واقعة يهود المدينة الذين تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشأن من ارتكب منهم القتل، مضمرين أن يأخذوا منه إذا حكم بالدية، ولا يأخذوا منه إذا حكم بالقصاص كما في التوراة.

[email protected]

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"