بينت السنة القرآن من وجوه، ففصّلت ما أجمل من عبادات وأحكام، فقد فرض الله تعالى الصلاة على المؤمنين، من غير أن يبين أوقاتها وأركانها وعدد ركعاتها، فبين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هذا بصلاته وتعليمه المسلمين كيفية الصلاة، وقال. (صلوا كما رأيتموني أصلي). وفرض الحج من غير أن يبين مناسكه، وقد بيّن الرسول عليه الصلاة والسلام كيفيته، وقال: (خذوا عني مناسككم). وفرض الله تعالى الزكاة من غير أن يبين ما تجب فيه من أموال وعروض وزروع، كما لم يبين النصاب الذي تجب فيه الزكاة، فبينت السنة ذلك كله.
ويقول فضيلة الشيخ علي حسب الله في كتاب (أصول التشريع الإسلامي): «إن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن تخصيص عامه، من هذا ما ورد في بيان قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» فهذا حكم عام في وراثة الأولاد آباءهم وأمهاتهم يثبت في كل أصل مورث، وكل ولد وارث فخصت السنّة المورث بغير الأنبياء، بقوله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورثُ ما تركناه صدقة) وخصت الوارث بغير القاتل بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث القاتل)».
تقييد وتفريع
ومن بيانه صلى الله عليه وسلم تقييد مطلق القرآن كما في قوله تعالى: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما» فإن قطع اليد لم يقيد في الآية بموضع خاص، فتطلق اليد على الكف وعلى الساعد وعلى الذراع. ولكن السنّة قيدت القطع بأن يكون من الرسغ، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما (أُتي بسارق فقطع يده من مفصل الكف).
وتأتي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مثبتة ومؤكدة لما جاء في القرآن الكريم أو مفرعة على أصل تقرر فيه، ومن ذلك جميع الأحاديث التي تدل على وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج. ومثال السنة التي وردت تفريعاً على أصل في الكتاب منع بيع الثمار قبل بدو صلاحها. ففي القرآن الكريم قوله تعالى: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم». فعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وجد المزارعين يتبايعون ثمار الأشجار قبل أن يبدو صلاحها، من غير أن يتمكن المشتري من معرفة كميتها وصلاحها، فإذا حان جني الثمار كانت المفاجآت غير الطيبة كثيراً ما تثير النزاع بين المتعاقدين، وذلك عندما يطرأ طارئ من برد شديد، أو مرض شجري يقضي على الزهر، وينعدم معه الثمر، ولذلك حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من البيع ما لم يبد صلاح الثمر، ويتمكن المشتري من التثبت من تمام تكونه، وقال: (أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟). وفي السنة أحكام لم ينص عليها الكتاب وليست بياناً له، ولا تطبيقاً مؤكداً لما نص عليه كتحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها.
لا إبطال ولا نقض
ويذكر الدكتور طه الدسوقي حبيشي في كتاب «السنة في مواجهة أعدائها» أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه، وقال الإمام أحمد: «إن السنة تفسر القرآن وتبينه»، وكان الإمام مالك يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ويترك ما سوى ذلك وإن جاءت فيه أحاديث. وقال: «أحب الأحاديث إليّ ما اجتمع الناس عليه»، وفي «روح المعاني» للألوسي أن الإمام الشافعي قال: «جميع ما حكم به النبي فهو مما فهمه من القرآن».
وقال العلامة السيد رشيد رضا رحمه الله: «والنبي مبين للقرآن بقوله وفعله ويدخل في البيان التفصيل والتخصيص والتقييد ولكن لا يدخل فيه إبطال حكم من أحكامه أو نقض خبر من أخباره، ولذلك كان التحقيق (أن السنة لا تنسخ القرآن).. والعمدة في الدين كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى والسنة العملية المتفق عليها في المرتبة الثانية، وما ثبت عن النبي وأحاديث الآحاد فيها رواية ودلالة في الدرجة الثالثة، ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلماً ناجياً في الآخرة مقرباً عند الله تعالى وقد قرر ذلك الغزالي».
فالسنة مفصلة لما أجمله القرآن، ومخصصة للعام، ومبينة للمبهم، وتقييد المطلق، وهذا هو قوله تعالى: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم» فمن السنة عرفنا ما أجمله القرآن عن الصلاة، فعرفنا أنها (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة)، وعرفنا أركانها وهيئاتها ومواقيتها ومبطلاتها، وآداب صلاة الجمعة... وهكذا وقال الشاطبي: «إن القرآن مشتمل على السنة حيث أمرنا باتّباع سنة النبي وذلك إعمال للقرآن، وهل في السنة ما يضاف إلى القرآن؟ نعم، ما لا نص فيه، كالذي أخرجه الحاكم (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء يوم خيبر، منها الحمار الأهلي وغيره). وكتحريم جمع الرجل في الزواج بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها».
موثوقة.. محفوظة
ومن هنا يتضح أن السنة، أحد مصادر التشريع الإسلامي معروفة لدى المسلمين موثوقة محفوظة، ولا شك في أن السنة المطهرة وهي ثانية هذه المصادر أوسعها فروعاً، وأحفلها نظماً، وأرحبها صدراً، إذ كان كتاب الله الكريم متضمناً للقواعد العامة في التشريع وللأحكام الكلية في الغالب، مما جعله خالداً خلود الحق، بيد أن السنة الكريمة عنيت بشرح هذه القواعد، وتثبيت تلك النظم، وتفريع الجزئيات على الكليات، مما يعرفه كل من درس السنّة دراسة وافية، ومن ثم لم يكن للمتشرعين من علماء الإسلام مندوحة من الاعتماد على السنة، واللجوء إليها، والعناية بها والاسترشاد بأحكامها المنصوصة على أحكام الحوادث الطارئة. والثابت من خلال الاصطلاحات العامة والخاصة والأدلة الكثيرة من الكتاب، أن السنة وحي يجب اتّباعه، وأنها شقيقة القرآن ومثيلته في الحجية والاعتبار، وأنها مصدر للدين مع القرآن الكريم تبعاً له واستقلالاً.