النقد مرآة النص

02:30 صباحا
قراءة 4 دقائق
علاء الدين محمود

منذ أن لاحظ الإنسان أن باستطاعته أن يرى انعكاسه على الماء؛ أي صورته، شكلت تلك اللحظة علاقة جديدة ومختلفة له مع ذاته والآخر، فمثلما وجد أن المرآة تمنحه صورته؛ أي حقيقته، فقد اكتشف أنه هو نفسه مرآة للآخر، كما أن الآخر مرآة له، ليُحدِث تطوراً ليس على مستوى عمل المرآة فقط بدلالات الضوء؛ بل على مستوى الآخر نفسه، ليس وجهه، وإنما أيضاً منتجه وعمله وإسهامه.

ولأن الكتابة الإبداعية هي فيض من روح الإنسان وتجلياته الذاتية، فإن الحاجة للآخر تبرز بقوة، فهو الذي يراقب رحلة النص الطويلة «من» و«إلى»، في كل مسيرتها الإبداعية عبر تلك «الإضاءات» الضرورية والقيمة التي يقدمها له، وذلك سر عمل المرآة الذي يكمن في لعبة الضوء والانعكاس.

ولكن فلنحذر، فمرآة النقد ليست مسطحة في كل الأحوال. فلئن كان المعني أنها ذات سطح مستوٍ وقياسي من دون منحنيات داخلية وخارجية، وتعكس الصورة كما هي من دون تقريب أو أبعاد أو تكبير أو تصغير، فإن مرآة النقد قد تخطت لحظة النظر المباشر والعابر منذ زمن طويل، وغادرت المرحلة الانطباعية والوصفية وأخذت تبحث عن الدقة عبر أشكال عدة، فهي محدبة ومقعرة بحسب مقتضى الحال والمقال وحركة النص. فالمرآة المحدبة تعكس الصور بزوايا منفرجة، وتمكن الناقد من الرؤية بأكبر زاوية ممكنة؛ أي عبر كل «السياقات» التي تحكم النص، فهو يتجول في تاريخه والظروف التي أنتجته، ويفكك العلاقة داخل النص ويحلل المقصي والمبعد منه، ويبحث عن «ظلال» الكاتب داخله؛ أي صانع النص الذي يعاد اكتشافه من جديد؛ لذلك دائماً ما نلاحظ هذه العبارة التي تكتب أسفل المرآة المحدبة خاصة في السيارات: «قد تبدو الأشياء في المرآة أبعد مما هي عليه في الحقيقة»، وهذا ما يفعله النقد في واحدة من حالاته.

أما المقعرة فهي التي تقوم بتجميع كل الضوء داخل البؤرة، فهي تستخدم في تكبير الأشياء بحيث لا يفلت شيء، وبحيث يتسنى النظر إلى كل التفاصيل الصغيرة والبحث عن الدلالات والرموز والتوظيف والاستخدامات والسمات؛ بل والأدوات، حيث تكبر هنا عين الناقد في هذه المرحلة من استجلاء النص والتعمق في خباياه والمناطق المهملة بسبب شح «الضوء»، حيث يدخل النص في عملية مجهرية دقيقة.

رموز وإشارات

وليس صحيحاً أن النقد قد امتنع عن أن يكون مرآة منذ فتوحات فرديناند دي سوسير (1857 1913) في عالم اللسانيات، ورحلته البنيوية التي سعت إلى البحث عن فرادة النص؛ بل العكس تماماً، فما الرموز والعلامات والإشارات التي أسس لها، إلا ضوء جديد يساعد في عملية الانعكاس الواضح أمام المرآة، حيث إن مرايا النقد تتغير وتتطور بحثاً عن النقاء والصفاء الذي يقدم الرؤى حول النص بأكبر قدر من الوضوح من خلال جميع الوضعيات، حيث إن تبدل وتغير المرايا، ما هو إلا بحث عن أفضل الزوايا التي يمكن أن يطل منها الناقد، وهذا ما قصده طه حسين عندما قال: «الناقد مرآة صافية واضحة كأحسن ما يكون الصفاء والوضوح والجلاء، وهذه المرآة تعكس صورة الأديب نفسه كما تعكس صورة الناقد». فقد كان طه حسين شديد الاهتمام بالنقد بوصفه مرآة، وهذا ما قاد الدكتور جابر عصفور إلى الغوص العميق في عوالم عميد الأدب العربي في مجاهيل علاقة الأدب بالنقد في كتابه الذي يحمل عنوان «المرايا المتجاورة»، ليكتشف في تلك الرحلة المعرفية الماتعة أن الناقد أديب وأن النقد أدب، حيث كان طه حسين يقول: «في قراءة القصيدة أو استماعها لذة فنية، وفي قراءة النقد أو استماعه لذة فنية لعلها تربي على اللذة الأولى وأخيراً».

خوف وهلع

خشية النقد امتداد لحالة نفسية لازمت الإنسان منذ القدم، وهي الخوف، لدرجة الرعب أحياناً من النظر في المرآة، ففي أوروبا ساد اعتقاد في القرون الوسطى بأن النظر إلى المرآة مخيف وغير مرغوب فيه، حيث كان يُعتقد أن الشيطان هو من منح المرآة للإنسان، وهذا يشير إلى «الغرائبية والعجائبية» المتعلقة بالمرآة وعلاقتها مع الذات الناظرة، وهي ذات الصورة في علاقة الكتاب، وربما جمهور القراء كذلك بالنقد. فالإنسان يظل غير راضٍ عن مظهره أمام المرأة، والتي لا تعكس الشكل فقط؛ بل حتى الدواخل، حيث إن انفعالات الوجه تظهر الغضب أو السرور، وبالتالي تعكس ما في الروح، وتلك هي صورة الكاتب أو النص بكل تفاصيلها ومنحنياتها وأسرارها في مرآة النقد، لكونه فعلاً تنقيبياً وبحثياً وتفكيكياً وتفسيرياً وتأويلياً، تتطور أدواته في كل مرحلة. ولقد جبل الإنسان على الخوف ممن ينقب وراءه، أو ممن يحاول أن يقترب من دواخله ويكتشف أسراره وعوالمه الخفية.

ونلاحظ أن طه حسين قد أدخل الناقد نفسه داخل المرآة؛ أي أنه غير منفلت من سلطة المراجعة، والرقابة، في سياق الدراسات التي تتناوله، وهذا ما يسمى بنقد النقد، حيث تفحص القيمة النقدية للدراسات التي تنتج في هذا الحقل، فهو لا يقوم بسلطته مطلق اليدين، بل مقيد بشروط وأدوات صارمة حتى لا يستسلم الناقد للكسل، والاستسهال، والأهواء، فهو مجال يهتم بمراجعة القول النقدي ذاته وفحصه، ومراجعة مصطلحاته، وبنيته التفسيرية، وأدواته الإجرائية، وهذا عينه ما ذهب إليه جابر عصفور، الذي يوضح كيفيته وتبيانه بالقول: «ممارسة نقد النقد من الممكن أن تكون على شاكلتين: الأولى نقد العمل النقدي، حيث المقالات المقدمة لنقد الأعمال الأدبية، والثانية الحركة النقدية بصورة عامة، على غرار الأعمال التنظيرية الخاصة بالتنظير في الأدب والفنون».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"