قرينة العين

02:23 صباحا
قراءة 6 دقائق

 يوسف أبولوز

(1)

تستدعي المرآة الكثير من المعاني والمفاهيم والأفكار التي تتصل بها:... الرؤية، الجمال، النرجسية، التصوّف، اللغة، الصورة، الوقوف، المغادرة، التذكر، الخيال، الغرور، الاحتواء، الأنا، الآخر،... وإلى آخره من «لغة مرآوية» تتمثل في الشعر، والرواية، والقصة، والرسم، والمسرح، والسينما؛ بحيث يبدو حقل ظاهرة المرآة من أكثر الحقول غزارة في آداب وفنون وأساطير ومرويات الشعوب وحضاراتها وثقافاتها، منذ الإغريق وحتى اليوم، ولعلّ كتاب الباحث د. محمود رجب الذي جاء بعنوان: «فلسفة المرآة» هو المرجع الكامل الشامل لظاهرة المرآة، وتاريخها، وفلسفتها وإحالاتها الواقعية والرمزية.

في بحث د. رجب الموسّع والغزير نقرأ أن صناعة المرآة الزجاجية بمعناها المعروف لنا الآن، بدأت في مستهل القرن السادس عشر في مدينة البندقية في إيطاليا، ويقول.. «صحيح أن الرومان وكذلك العرب كانوا يستخدمون الزجاج لصنع المرايا؛ لكن أرضية هذه المرايا كانت معتمة؛ بحيث لا تظهر عليها الصور واضحة وضوحاً كافياً..»، ولكن المرآة كانت موجودة قبل القرن السادس عشر بكثير، ففي بحث د. رجب نطالع صورة لعمل فني يمثل خادمة إغريقية تقدّم لسيدتها مرآة محدّبة في القرن الرابع قبل الميلاد، وأكثر من ذلك، فالإغريق عرفوا أنواع المرايا: المحدّبة، والمقعرة، والمستوية؛ لكن هناك مرايا مجازية يخصص لها د. رجب فصلاً كاملاً؛ وهي أربع مرايا: مرآة الله، مرآة العالم، مرآة الإنسان، ومرآة السحر.

المرآة أيضاً رمز فلسفي روحي تأمّلي في الفكر الصوفي العربي، والمرآة بحسب د. رجب هي صورة للذات «.. بأعماقها، وأسرارها، وأبعادها الداخلية»، ويرى أن المرأة تستعمل المرآة؛ لكي تعرف نفسها عندما يسقط وجه المرأة أمامها على سطح المرآة.. «.. فتكون في حال من المواجهة للذات، أي تكون وجهاً لوجه مع نفسها، وبالتالي، تزدوج حين تصبح، وهي تبحث عن ذاتها، شكلاً يُشاهَدْ وَيُلاحظ كما لو كان شكلاً آخر غيرها..».

ولكن، هل المرآة هي فقط ذلك الخليط المادّي من الفضة والزجاج، أو أية مادّة أخرى تُمسح على السطح الزجاجي، لنحصل على مرآة تعكس صورة وجوهنا وأجسادنا؟.. د. محمود رجب يرى أن كل شيء إنما هو مرآة، أو كالمرآة، ويقول: «معنى هذا، بعبارة أخرى، أن كل شيء في الوجود إمّا أن يكون مرآة حقيقية، وبالمعنى الحرفي، وإمّا أن يكون مرآة رمزية مجازية»

(2)

المرآة حاضرة أيضاً في المعتقد الشعبي العربي والأجنبي، وعلى سبيل المثال لا تسمح الأمّهات لأبنائهن وبناتهن بالوقوف طويلاً أمام المرآة؛ كي لا يصابوا بالجنون، فالتحديق الطويل في المرآة يفقد الإنسان عقله، أما إذا توفي شخص من أهل المنزل، فتقوم امرأة بتغطية المرايا بالقماش؛ وذلك ما تفعله بعض الشعوب الأوروبية بناء على معتقد شعبي؛ إذ إن تغطية المرآة بالقماش يحول دون موت شخص آخر في العائلة.

(3)

إنّ من أكثر المرايا شهرةً في الثقافة العالمية هي مرآة نرسيس. الشاب اليوناني المذهل الوسامة، ولم يكن قد رأى وجهه من قبل في مرآة، ولكنه ذات يوم وهو يطل على غدير ماء رأى انعكاس صورة وجهه على صفحة الماء. أي أن مرآة نرسيس هي مرآة الماء، وليست مرآة الفضة والزجاج، ومهما كانت هذه المرآة التي كشفت على جمال نرسيس ومهما كان صفاؤها أو عتمها، فإن الشاب جُنّ بالصورة المنعكسة في الماء. لم يصدّق أنه على هذا القدر «المرعب» من الجمال، وسوف تكون هذه الحكاية أو هذه الأسطورة حقلاً تأويلياً في علم النفس بشكل خاص، وتحديداً عند سيجموند فرويد الذي أوجد مصطلح النرجسية، أو النرسيسية؛ أي الأنانية المفرطة، الأنا المركزية «الغاشمة» حتى لو رأت صورتها في غدير ماءْ، والنرجسية بحسب قراءة موسعة للشاعر عبدالعزيز جاسم «30 أغسطس/آب 2008، الملحق الثقافي لجريدة الخليج» هي مشكلة، وهي أيضاً مرض.

النرجسي مريض مرتبط أساساً كما يقول عبد العزيز جاسم بالوهم الزائف.. «.. والصدّى الفارغ عن نفسه، فهو في قرارته لا يحب الغير؛ بل بخبثنة مكشوفة يدّعي ذلك، كما أنه لا يحب إلاّ أناه المغرورة والمزوّرة فقط، تلك التي تكون في العادة محشوّة بالتبن والمنفوخة بالصّدى الفارغ كالطبل..».

لم يكن نرسيس على هذه الصفات التي ساقها عبد العزيز جاسم: الوهم، الزيف، الخبث، الغرور، التزوير.. بل كان شاباً وسيماً أقرب إلى طبيعة الشاعر أو الموسيقي، ولكن المرآة خدعته. مرآة الماء كانت السبب في عشقه المجنون لنفسه، هذا العشق الذي تحوّل على يد فرويد إلى مصطلح قامت عليه مئات الدراسات التي تناولت ظاهرة الإنسان الأناني والذي غالباً ما تخدعه مرآة نفسه، ودعنا نتحوّل ثانية إلى د. محمود رجب الذي يرى أن المرآة من حيث هي رمز للخداع، ومن حيث هي رمز للمعرفة... «.. تتضمّن تحولاً يطرأ على الإنسان الناظر إليها، ويتمثل هذا التحوّل في الوعي، ولو كان وعياً ضئيلاً بأن ثمة معرفة بنفسه أو بغيره، وحتى الوعي بالخداع هو بداية التخلّص من الخداع..». غير أن المرآة، بما هي رمز للخداع هي أيضاً رمز آخر للصدق، أو رؤية الذات بلا كذب أو تزييف وهما من طبائع البشر، وليس من طبائع المرايا الصقيلة الفضية الباردة، ومثلما ترى أنت نفسك في المرآة، ففيها أيضاً يراك الله.. يقول عبد الوهاب البياتي:

«وجهك في المرآةِ وجهانِ/ فلا تكذب/ لأن الله/ يراك في المرآة».

أمّا ما هو أسوأ من خديعة المرايا، فهو استعمالها كأدوات من أدوات التعذيب؛ وذلك عندما اخترع العقل البشري هذا الذي يحمل صاحبه على الكذب والتلفيق والخداع.. ما سُمّي غرفة المرايا، وهي ليست غرفة المرايا الخاصّة بالمسرح، والتي يتأكد خلالها الممثل من قناعه، فيرى صورته بالقناع قبل صعوده إلى الخشبة؛ ليطمئن إلى الشخصية التي سوف يؤديها أمام الجمهور؛ بل هي غرفة المرايا التي تستعمل للتعذيب. غرفة كلها مرايا بحجم جدرانها الأربعة، وثمة مرآة تغطي سقف الغرفة، ومرآة أخرى على اتساع أرضية الغرفة.

يؤخذ الرجل الذي يحكم عليه بالتعذيب إلى هذه الغرفة المحاطة بالمرايا الكبيرة، فيرى نفسه أكثر من شخص. يرى نفسه أربعة أو ستة أشخاص هم في الأخير هذا الرجل بعينه، ومع الوقت وتكرار الحجز في غرفة المرايا هذه.. يفقد الرجل عقله، أو يصاب بنوع مرعب من الفصام، وربما ليس بعيداً عن هذه المخيّلة الشريرة التي اخترعت هذا النوع من التعذيب بالمرايا؛ ذلك الخوف الشيطاني المرعب أيضاً الذي كان ينتاب بعض القبائل البدائية التي عرفت المرآة للمرة الأولى، فأصيب رجالها ونساؤها بالذعر عندما رأوا وجوههم في المرايا.

(4)

في هذا المفصل من هذه القراءة للمرآة أتوقف عند مرآتين: الأولى: مرآة الصوفي الكبير شمس الدين تبريزي «604-672 هجرية»، والثانية مرآة الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد 1932-1966.

مرآة تبريزي، بالطبع هي مرآة عرفانية يتحوّل فيها الصوفي نفسه إلى مرآة.. يقول شمس الدين تبريزي:

«أنا مرآة..

أجل أنا مرآة

حتى أرى وجهه الذي يشبه القمر

وأنا عين الدنيا،

أجل أنا عين الدنيا،

منذ أن رأيت عينه السوداء».

هذا النص الصغير على اختزاله وتكثيفه يحمل رموزاً أخرى تتوالد من ظاهرة المرآة، ومن هذه الرموز «العين» والمرآة قرينة العين. إن العين هي اللغة الصامتة للمرآة، ولولا العين لما كانت المرآة. عين نرسيس ومرآة غدير الماء هُما من جنّنا هذا الشاب «الفاحش» في جماله الأسطوري، ولولا العين والمرآة لما اكتشف الإنسان جماله وقبحه. شبابه وشيخوخته. نحوله وامتلاءه. لولا العين والمرآة لما عرف الإنسان لونه. وحده اسم الإنسان لا ينعكس على سطح المرآة. أما الدموع فتراها العين. الحزن والأسى والوحشة، تراها العين.. في بيت المرآة،.. وترى الخيانة أيضاً..

نصل الآن إلى مرآة فروغ فرخزاد، وهنا تنصت المرآة إلى شكوى امرأة وحيدة تتذكر حبيبها في ذكرى «العشق المفرح البهيج».

تقول فروغ فرخزاد في هذه القصيدة التي جاءت بعنوان: «المرآة المحطَّمة»:

بالأمس وعلى ذكراك وفي ذكرى ذلك العشق المفرح البهيج،

ارتديت قميصاً أخضر اللون،

ونظرت في دهشة من جديد إلى وجهي في المرآة،

وحللت ببطء الرباط المعقود على أطراف جدائلي.

وأحضرتُ العطر، ونثرتُ منه على رأسي وصدري،

وكحَّلتُ عيني بكل غنج ودلال،

وبعثرت جدائلي فوق كتفي،

ووضعت برقةٍ خالاً في زاوية شفتي

وقلت لنفسي حينذاك: مئة حسرة على أنه غير موجود حتى يذهل من كل هذا السحر والدلال.

تتحّول المرآة في هذه القصيدة إلى كائن حيّ. يصغي لشكوى أو لعذابات المرأة. بكلمة ثانية تتأنسن المرآة، وتأخذ بالكلام. فقد تعلّمت المرآة الكلام وهي تصغي لهذا الشعر. تقول إن قلبها تحطّم، مثلما تحطم قلب المرأة العاشقة.

ويا للمصادفة هنا أن أقرأ قصيدة للشاعر جول سوبر فييي 1884-1960، يتحدث فيها عن مرآة؛ لكنها تختلف عن مرآة فروغ فرخزاد التي كانت مرآتها مرآة ناطقة. متكلّمة، مُحطّمة، فمرآة سوبر فييي صامتة صمتاً طويلاً، يقول: «ليعطوها مرآة في منتصف الطريق

سوف ترى الحياة تنزلق فيها من يديها

ونجماً يسطع كقلب لا يعرف الاستقرار

تشتد ضرباته حيناً، وحيناً يخفق بغير انتظام

وعندما يقتربون، سترى طيورها المحبوبة.

لكنها لن تفهم شيئاً

ستحاول، وقد تملكها الخوف، أن ترى وجهها

وستصمت المرآة صمتاً يطول..».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"