ظاهرة الدكتور مشالي

04:05 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبدالله السناوي

لم يخطر ببال ذلك الطبيب الريفي الذي وهب علمه لعلاج الفقراء والمعدمين دون مقابل مالي، أو بأجر رمزي، أن يحظى بتكريم، أو شبه تكريم، في حياته، أو بعد رحيله. ولا خطر ببال أحد أن يمثل موته صدمة عامة تمددت أصداؤها بعيداً، فهو رجل من عامة الناس يُطلق عليه لقب «طبيب الغلابة»، اكتشف دوره الإعلام بمصادفات التغطيات المهنية قرب انتهاء رحلته في الحياة.
تجربته تحوّلت إلى أمثولة شعبية جماعية على شبكات التواصل الاجتماعي، كأنها مستوحاة من عالم الأساطير القديمة التي لا تكاد أن تصدق. كان وداعه مهيباً كنجم فوق العادة، والناس بالكاد سمعت عنه متأخراً. بقوة المشاعر التلقائية تمددت ظاهرة الاحتفاء به إلى مناطق أخرى في العالم لم يكن بوسعه أن يزورها سائحاً، ولا متاحاً أن يدعى إليها ضيفاً.
تبارت حكومات أوروبية وعربية في الإشادة بمآثره الإنسانية، وإصدار بيانات عزاء للشعب المصري، كأن ركناً فيه قد تهدم، دون أن يكون ممكناً أن تطل على تجربته في مدينة نائية وتستقصي جوانبها.
وجدت مؤسسات الدولة أن من واجبها أن تشارك في العزاء، الأزهر الشريف بدأ مبكراً بالالتفات إلى قيمة عطائه الإنساني، ومجلس الوزراء نعاه ببيان مطول قال فيه: «إنه نسيج وحده في الإنسانية والإيثار (..) ومثلاً أعلى للأطباء الشبان».
المعاني تصدرت مشهد رحيله، وفرضت تكريماً يصعب أن تحوزه أية شخصية مصرية أخرى من تلك التي تحتل الواجهات العامة. كانت تلك مفارقة كبرى في قصة حياته التي قضاها منسياً ومجهولاً.
أول تفسير ممكن لظاهرة الدكتور محمد مشالي، التي تبدت عند رحيله، هو قوة النموذج الإنساني الذي يلهم فكرة العطاء والحُنوِّ على المرضى الفقراء دون دعايات وإعلانات وطلب تبرعات.
هو مواطن بسيط بالغ البساطة من عامة الناس العاديين، عيادته كمظهره، رائحة الفقر تطل عليها، هو نفسه يشبه مرضاه، يمضي في الشوارع شبه منحنٍ بأثر السنين، حاملاً حقيبة بداخلها بعض الأدوات الطبية والأدوية التي قد يحتاجها من لا يستطيعون شراءها.
كاد ألا يلتحق بكلية الطب لظروفه المالية العائلية القاسية، لولا مجانية التعليم الجامعي التي تصادف إعلانها قبيل التحاقه مباشرة بها.
لم يكن ضليعاً في علمه، ولا مكنته ظروفه من الحصول على دراسات عليا في الطب، أو الالتحاق بجامعات غربية تنمي معارفه وقدراته، ولا له دراسات وأبحاث منشورة في الدوريات الطبية الدولية، ولا حضر مؤتمرات عالمية، شأن الأطباء الكبار، لكنه فاقهم جميعاً بقوته الأخلاقية؛ بتفانيه في خدمة من لا يقدرون على الذهاب لعياداتهم، أو دفع أتعابها الباهظة.
إنها القوة الأخلاقية قبل وبعد أي شيء آخر. تكاد ظاهرته أن تستلهم تجربة «الأطباء الحفاة» التي شاعت في الصين بعد ثورتها بقيادة ماو تسي تونج، أواخر أربعينات القرن الماضي.
كان الفلاحون الصينيون، الأغلبية الساحقة من السكان، يرزحون تحت وطأة ضربات الذباب والأفيون والأمراض المتفشية، دون علاج؛ أدنى علاج يساعدهم على تخفيف آلامهم. «الأطباء الحفاة» هم فلاحون تلقوا تدريباً يؤهلهم لتوفير الخدمات الصحية الضرورية للمناطق النائية التي تغيب عنها المستشفيات الحديثة.
نفس الدور، بصيغة معدلة، لعبه الدكتور مشالي. هو طبيب محترف، حاول بقدر ما يستطيع بمجهود فردي، سد العجز في الرعاية وتوفير أبسط الخدمات الطبية. لم يعمل ضمن منظومة ووهب نفسه لمساعدة الآخرين. كانت تلك قوة أخلاقية استثنائية نادرة وضعته في مصاف أخرى.
ثاني تفسير ممكن، هو الحاجة إلى رد اعتبار مهنة الطب كمهنة إنسانية نبيلة. عبّر الدكتور مشالي، دون صخب عن نموذج يحتذى في مواجهة منطق العلاج الخاص والمستشفيات الاستثمارية التي تلتزم الربح قبل أي اعتبار آخر.
ثالث تفسير ممكن، أنه بشخصه وظروفه بدا مثالاً للإنسان العادي، تبدت قوته في عاديته المفرطة، تصرفاته الصادقة وتصريحاته العفوية.
هو رجل يشبه أي مواطن آخر ممن يطلق عليهم عادة «ملح الأرض»، الذين يعملون باجتهاد في مواقع الإنتاج، والعمل دون تكريم، ويضحون في الأزمات والحروب دون أوسمة.
لم يكن أول من أطلق عليه صفة طبيب الغلابة. هناك أطباء آخرون يلعبون الدور نفسه بعيداً عن أضواء الإعلام. أتاحت ظروفه قرب نهاية حياته أن يلخص في شخصه معاني كل التضحيات التي تبذل في صمت.
في التاريخ المصري المعاصر أطلق اللقب نفسه على طبيبين يساريين راحلين، أولهما الدكتور علي النويجي، وكانت تجربته ملهمة بتزاوج بين العمل التعاوني الزراعي والعمل الطبي التطوعي، حين قاد في بلدته حملة تطعيم للفلاحين ضد وباء الكوليرا عند نهايات ستينات القرن الماضي. وثانيهما، الدكتور حمزة محمد البسيوني، الشخصية الحقيقية للدور الذي لعبه الفنان الراحل رشدي أباظة في فيلم «لا وقت للحب»، حيث تفرغ تقريباً بعد جلاء القوات البريطانية من مصر التي حاربها في الإسماعيلية والتل الكبير ضمن جماعات الفدائيين بعد إلغاء معاهدة 1936، إلى قضيته كطبيب يعنيه الفقراء وحقوقهم في تأمين صحي حقيقي.
كلاهما النويجي وحمزة، شارك في العمل السياسي ودخل المعتقلات في عهود وأزمان مختلفة.
لم يكن مشالي من نفس القماشة السياسية، ولا عرفت عنه أية انتماءات فكرية تتجاوز إعجابه بالامتنان لجمال عبد الناصر الذي وفر له فرصة التعليم الجامعي المجاني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"