تفتيت الموروث العربي

02:30 صباحا
قراءة 5 دقائق
** القاهرة: مدحت صفوت

بين الحين والآخر، يفتح ملف المخطوطات العربية التي تتوزع على مكتبات العالم ومراكزه الثقافية ومؤسساته الوطنية؛ لحفظ وأرشفة التراث؛ نظراً لكم هذه المخطوطات من جانب، ومن جانب آخر للدور الذي لعبته الحضارة العربية في تاريخ الإنسانية بخاصة في فترات الازدهار والتطور والتقدم.
بيد أن وصول هذا الكم من المخطوطات إلى المكتبات الغربية يحمل تاريخاً، تداخلت فيه الأهداف العلمية والمعرفية والبحثية مع الأهداف التجارية والاستعمارية، إلى أن أصبحنا اليوم أمام تراث يُقدر بعشرات الآلاف من المخطوطات الموزعة في العواصم غير العربية.
بالعودة إلى الوراء زمنياً، بدأ الاهتمام الغربي بالمخطوطات العربية، مع نهايات القرن الخامس عشر، وكان الباحثون الغربيون قد شرعوا في ترجمة المؤلفات العربية العلمية والفلسفية إلى اللغة اللاتينية من دون أن يعرفوا المخطوطات التي نقلوا عنها؛ لكن سرعان ما انتبه الغربيون إلى ضرورة التعامل المباشر مع المصدر العربي، وكانت النتيجة اهتماماً بالغاً بالمخطوطات العربية.
هنا يشير المستعرب أنجيلو ميكيلي بيمونتيري، إلى أنه وقبل اختراع الطباعة قُدمت إلى البابا يوجينيو الرابع في عام 1441م مجموعة كبيرة من المخطوطات العربية المصرية الأصل، وشملت نصوصاً مسيحية وطبية وفلسفية ونُسكية، وأصبحت فيما بعد جزءاً من «مكتبة الفاتيكان»، التي تأسست في عام 1450.


قراءة ونسخ


وفي رسالة إلى الفيلسوف الإيطالي مارسيليو فيشينو، كتب المستشرق جيوفاني بيكو في عام 1486، «إن دراسة الفلاسفة العرب، من خلال الترجمات اللاتينية لا تعدو أن تكون تكراراً لمعارف القرون الوسطى؛ ولذلك فإن الوقت قد حان لقراءة المؤلفات الأصلية»، وهو ما كان قد شرع فيه بالفعل. وبعد ذلك بزمن وجيز بدأ بعض الخطاطين والمدققين والباحثين الطليان في تركيز اهتمامهم على المخطوطات العربية ونسخها.
وبعد مئة عام من رسالة بيكو، نجح الرحالة ج. ب. فيشيتي وشقيقه جيرولامو في جلب المخطوطات العربية إلى إيطاليا بتكليف من دار الطباعة الميديتشية الشرقية، التي أنشئت في روما في عام 1584، الأمر الذي أعجب الكاردينال الفرنسي جاك دافيد بيرون «1566-1618» فدوّن «إن فيشيتي وقد عاد حديثاً من الإنديز 1608، قد أتى ببعض المؤلفات الإغريقية في الرياضيات مترجمة إلى العربية، وهي مؤلفات لم نرها من قبل، وفي مكتبة الفاتيكان يوجد عشرون مؤلفاً مترجماً إلى العربية، وهي مؤلفات مفقودة في اللغة الأصلية، نحن مدينون للعرب بالنصوص الإغريقية القديمة التي صانوها من أجلنا».
ومع القرن السادس عشر، ونشاط حركة الاستشراق، زاد الاهتمام بالمخطوطات العربية وجلبها إلى المكتبات الأوروبية، بالشراء أو السلب، بالطرق الشرعية وغير الشرعية، ومع التطور الغربي الذي بدأ يتلاحق فيما بعد، والسيطرة العسكرية على بلدان المشرق، راجت تجارة المخطوطات، وانتشر التجار في العالم العربي.
وفي مطلع القرن العشرين نصح المستعرب الإيطالي جريفيني، الذي سبق أن شغل مدير المكتبة الملكية بالقاهرة في الفترة من 1920- 1925، مواطنه التاجر كايروتي في مدينة الحُديدة باليمن، أن يشتري المخطوطات بالحبوب التي كان يتاجر بها، ونجح في جمع 1610 مخطوطات، باعها إلى مكتبة أمبروزيانا في ميلانو، وعلى طريقة ناصحه جريفيني الذي نقل من مصر ألفاً ومئتين وإحدى وأربعين مخطوطة إلى المكتبة ذاتها.
وتزخر كتب التاريخ بالحكايات التي تكشف كيف استطاع التجار والرحالة والدبلوماسيون الغربيون في نقل المخطوطات العربية إلى بلدانهم، فضلاً عن تأثير الاحتلال العثماني للمنطقة العربية، بداية من القرن السادس عشر، الذي أسهم في تفتيت الموروث العربي المكتوب والاستيلاء عليه، ولعلنا نذكر فرمان السلطان عبد الحميد الثاني في إسطنبول بإهداء مخطوطات الجامع الأموي في دمشق إلى ألمانيا؛ بمناسبة زيارة ولي عهدها إلى الجامع في عام 1898.


خريطة الانتشار


وبالنظر إلى خريطة توزيع المخطوطات العربية في مكتبات العالم، لا تكاد توجد مكتبة وطنية ذات ثقل إلا وتحوي جانباً من الموروث العربي، وتتركز أغلبها في الدول الأوروبية، فيما يقل عدد المخطوطات العربية بالولايات المتحدة قياساً بالقارة العجوز؛ نظراً لتأخر الاهتمام الأمريكي بمجال التاريخ العربي ومخطوطاته، خاصة أنها شرعت في الاهتمام بالدراسات العربية أوائل القرن التاسع عشر.
ومع تأخر الاهتمام الأمريكي، تشير بعض الإحصاءات إلى امتلاك مكتبات الولايات المتحدة لنحو ثلاثة عشر ألف مخطوطة، تتوزع أغلبها بين جامعة برنستون، المتضمنة مجموعة يهودا الشهيرة البالغة خمسة آلاف مخطوطة، التي حصلت عليها من تاجر يهودي من أصول عربية يُدعى «يهودا» في عام 1943 مقابل سبعة وعشرين ألف دولار، إلى جانب جامعتي ييل وشيكاغو ومكتبة الكونجرس بواشنطن والمكتبة العامة في نيويورك.
مقابل التراجع الأمريكي، تحل روسيا في مقدمة قائمة الدول الأكثر امتلاكاً للمخطوطات العربية، وعلى الرغم من عدم وجود إحصائية رسمية يُقدر خبراء المخطوطات وفهرستها، عدد المخطوطات العربية في روسيا بين أربعين إلى ثمانين ألف مخطوطة، أغلبها في معهد الدراسات الشرقية في مدينة بطرس بيرج.
في الجانب الآخر من أوروبا، تحتوي مكتبات بريطانيا على نحو عشرين ألفاً، فيما تضم فرنسا ما يزيد على ثمانية آلاف مخطوطة، معظمها في المكتبة الوطنية بباريس. بينما تحوي مكتبات ألمانيا نحو أربعة عشر ألف مخطوطة، وتضم إيطاليا نصف هذا العدد تقريباً، إلى جانب آلاف المخطوطات الموجودة في مكتبات إسبانيا وبلغاريا والنمسا وأيرلندا، خاصة مكتبة شستربتي التي تضم أربعة آلاف مخطوطة.
وإلى جانب ما تفيض به المكتبات الغربية من مخطوطات، تحتفظ المكتبات العربية القومية بعدد هائل من المخطوطات والنسخ، الأمر الذي تطلب من الجهات المسؤولة عنها العمل على فهرستها وأرشفتها، ومؤخراً ميكنتها والاحتفاظ بنسخ إلكترونية ورقمية كما هو الحال في دار الكتب والوثائق القومية المصرية، ولا يزال الأمر في بداياته.


فضل الاستشراق


إذاً، تضافرت جهود الاستعمار والاحتلال والتجارة مع الجهود العلمية «الاستشراق»، وأسهمت من جهة في الاستيلاء على المخطوطات العربية، ومن جهة في المحافظة عليها وفهرستها ودراستها فيما بعد على نحو منهجي ووضع أسس علمية لطرائق تحقيق التراث.
واهتم الباحثون الغربيون، من خلال ما حصلوا عليه من مخطوطات علمية وأدبية بدراسة تاريخ المنطقة العربية وفنون العرب وآدابهم. وعن حركة الأخير، أي الأدب، عني الغربيون بعدد من القضايا عملوا على تأصيلها سواء في الشعر أو النثر، وأنتجوا دراسات عدّة اتخذت أشكالاً كتابية مختلفة، تتلخص في الشكل المقالي والدراسات العابرة أو الكتب المتوسعة والمتفحصة لظاهرة ما.
ومع التأكيد على سلبيات نهب التراث العربي أو نقله، تجدر الإشارة إلى الدور الذي لعبته المكتبات الغربية وباحثوها في صون هذا التراث، أو في تسليط الضوء على أهميته، فخلف المستشرقون بدورهم تراثاً ضخماً توسع على مر العصور والحقب؛ ليشمل جوانب العلوم الدينية والاجتماعية والأدبية وغيرها، وطرقوا المواضيع التي ألزموا أنفسهم بدراستها، وبحثها، متفانين في ذلك أشد التفاني، باذلين الجهد والمال والوقت خدمة لأوطانهم وتحقيقاً لأهدافهم القريبة والبعيدة.
والحديث عن أهمية التراث العربي والإسلامي، في صورته المخطوطة أو المُحققة، يتطلب تأكيد ضرورة النظر إلى هذا الموروث ضمن سياقه التاريخي، كوسيلة للحكمة والمعرفة والمعلومات. فبعض من أهمية النتاج العربي والإسلامي القديم، التي دفعت إلى الاهتمام به، يتعلق بالدور الذي لعبه هذا النتاج في نقل المعرفة، وكدرجة ضمن سلم تطور المعارف البشرية، وحلقة في مسار رحلة العقل الإنساني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"