الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام والعقائد

وما ينطق عن الهوى
02:56 صباحا
قراءة 4 دقائق

يصنف العلماء المسلمون بخصوص مواقفهم تجاه السنة النبوية المباركة إلى نوعين‮، ‬الأول‮: ‬من‮ ‬يحتج بالسنة قولاً، وفعلاً، وتقريراً، في‮ ‬الأحكام والعقائد ولو آحاداً، إذا كانت صحيحة، وهم أهل السلف من المحدثين والفقهاء المعتبرين، كأبي‮ ‬حنيفة، والشافعي،‮ ‬ومالك، وأحمد بن حنبل، والليث، والنسائي، ‬والنخعي،‮ ‬وأمثالهم، وذلك لعموم الأدلة الواردة من القرآن والسنة، لأنه من المتفق عليه بين المسلمين أن للدين الإسلامي‮ ‬مصدرين، هما‮: ‬الكتاب، والسنة، والأدلة الواردة من الآيات القرآنية والسنة النبوية‮ ‬في‮ ‬وجوب تحكيم هذين المصدرين في‮ ‬كل ما شجر كثيرة، ولم‮ ‬يرد عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، والتابعين وتابعيهم، من الأئمة المعتبرين، ما‮ ‬يفيد التفريق بين العقائد والأحكام، بل السنة هي‮ ‬المرجع الثاني،‮ ‬والأخير، في‮ ‬الشرع الإسلامي‮ ‬في‮ ‬كل نواحي‮ ‬الحياة من أمور‮ ‬غيبية اعتقادية، أو أحكام عملية، أو سياسية، أو تربوية، وأنه لا‮ ‬يجوز مخالفتها في‮ ‬شيء من ذلك لرأي‮، ‬أو اجتهاد، أو قياس‮.‬
يقول أحمد بن حجر آل بوطامي‮ ‬البنعلي‮ ‬في‮ ‬كتابه‮ (‬سبيل الجنة بالتمسك بالقرآن والسنة‮): ‬«إن الصنف الثاني‮ ‬من المسلمين أمام السنة من‮ ‬يحتج بالسنة قولاً وفعلاً وتقريراً في‮ ‬الأحكام، ولو كانت آحاداً، ولا‮ ‬يحتج بها في‮ ‬العقائد، وهم المتكلمون من المعتزلة، وغيرهم، وكثير من الأصوليين، وكثير من علماء هذا العصر، وشبهتهم أن أحاديث الآحاد تفيد الظن، والظن لا‮ ‬يغني‮ ‬من الحق شيئاً، والعقائد لابد أن تستند إلى أدلة‮ ‬يقينية، إما عقلية، وإما نقلية قطعية»، وتشبثوا بقوله تعالى في‮ ‬المشركين‮: ‬«إنْ‮ ‬يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس»، وبقوله سبحانه وتعالى‮: ‬«إن الظن لا‮ ‬يغني‮ ‬من الحق شيئاً»، وفات هؤلاء المستدلين أن الظن المذكور في‮ ‬هذه الآيات ليس المراد به الظن الغالب الذي‮ ‬يفيده الآحاد، والواجب الأخذ به اتفاقاً، وإنما هو الشك الذي‮ ‬هو الحرص، فقد جاء في‮ (‬النهاية‮) ‬و(اللسان‮) ‬وغيرهما من كتب اللغة‮: ‬«الظن الشك‮ ‬يعرض لك في‮ ‬الشيء فتحققه وتحكم به‮».‬
‮ ‬فهذا هو الظن الذي‮ ‬نعاه الله تعالى على المشركين، ومما‮ ‬يؤيد ذلك قوله تعالى فيهم‮: ‬«إنْ‮ ‬يتبعون إلا الظن وإنْ هم إلا‮ ‬يخرصون‮)، فجعل الظن هو الحرص الذي‮ ‬هو مجرد الحزر، والتخمين‮».‬
‮ ‬ولو كان الظن المنعي‮ ‬على المشركين في‮ ‬هذه الآيات هو الظن الغالب كما زعم أولئك المستدلون لم‮ ‬يجز الأخذ به في‮ ‬الأحكام أيضاً، وذلك لسببين اثنين‮: (‬الأول‮): ‬أن الله أنكره عليهم إنكاراً مطلقاً، ولم‮ ‬يخصه بالعقيدة دون الأحكام‮. ‬و(الآخر‮): ‬أنه تعالى صرح في‮ ‬بعض الآيات أن الظن الذي‮ ‬أنكره على المشركين‮ ‬يشمل القول به في‮ ‬الأحكام أيضاً، فاسمع إلى قوله تعالى الصريح في‮ ‬ذلك‮: ‬«سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا‮ (‬فهذه عقيدة‮) ‬ولا حرمنا من شيء‮ (‬وهذا حكم‮)‬».


فلسفة دخيلة


ويذكر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني‮ ‬في‮ ‬كتاب‮ (‬الحديث حجة بنفسه في‮ ‬العقائد والأحكام‮)‬، أن هناك أحاديث كثيرة وآيات دالة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في‮ ‬الأحكام، وتدل أيضاً‮ ‬بعمومها وشمولها على وجوب الأخذ به في‮ ‬العقائد أيضاً، والحق أن التفريق بين العقيدة والأحكام في‮ ‬وجوب الأخذ فيها بحديث الآحاد فلسفة دخيلة على الإسلام، لا‮ ‬يعرفها السلف الصالح، ولا الأئمة الأربعة الذين‮ ‬يقلدهم جماهير المسلمين في‮ ‬العصر الحاضر‮.‬
‮ ‬وأيضاً من الأدلة على قبول خبر الآحاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أرسل الرسل إلى ملوك العرب، وغيرهم، يدعوهم إلى الإسلام، ومعلوم أن المرسل من الرسول كان رجلاً واحداً‮، (‬أو اثنين)، ومعه كتاب، ولم تكن تلك الرسالة بدرجة التواتر، ومع ذلك أسلم من أسلم ورأى أن الحجة قد قامت على من أبى، بواسطة إرسال ذلك الرسول، ويجب عليهم أن‮ ‬يقبلوا خبر رسول الرسول ويسلموا، لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وقيصر، وملك اليمامة، وابنى الجلندي‮ ‬ملك عمان، وغيرهم‮.‬
‮ ‬كما أنه أرسل معاذاً‮ ‬إلى اليمن وقال‮: «‬إنك تأتي‮ ‬قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي‮ ‬رواية‮: ‬إلى أن‮ ‬يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في‮ ‬كل‮ ‬يوم وليلة‮». ‬(الحديث أخرجه البخاري‮ ‬ومسلم‮).‬


تحويل القبلة


‮إن المسلمين لما أخبرهم العدل الواحد وهم بقباء في‮ ‬صلاة الصبح، أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره وتركوا الجهة التي‮ ‬كانوا عليها، واستداروا إلى القبلة، ولم‮ ‬ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شكروا على ذلك، وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى‮. ‬فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد، لم‮ ‬يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا‮ ‬يفيد العلم، وغاية ما‮ ‬يقال فيه أنه خبر اقترنت به قرينة، وكثير منهم‮ ‬يقول‮: (‬لا‮ ‬يفيد العلم بقرينة ولا‮ ‬غيرها وهذا في‮ ‬غاية المكابرة‮).‬
‮‬ومعلوم أن قرينة تلقي الأمة لحديث الآحاد بالقبول وروايته قرناً‮ ‬بعد قرن من‮ ‬غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها، فأي‮ ‬قرينة كانت أقوى منها‮؟
وقوله تعالى‮: «ولا تقفُ ما ليس لك به علم»، أي‮ ‬لا تتبعه ولا تعمل به، ولم‮ ‬يزل المسلمون من عهد الصحابة‮ ‬يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بها الصفات، فلو كانت لا تفيد علماً‮ ‬لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم‮.


تبليغ الرسالة


وقوله تعالى‮: ‬«يا أيها الرسول بلغ‮ ‬ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته» وقال تعالى‮: ‬«وما على الرسول إلا البلاغ‮ ‬المبين»، وقال النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ (‬بلغوا عني‮ ‬ولو آية‮)‬، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في‮ ‬الجمع الأعظم‮ ‬يوم عرفة‮: (‬أنتم مسؤولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا‮: ‬نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت‮). ‬ومعلوم أن البلاغ‮ ‬هو الذي‮ ‬تقوم به الحجة على المبلغ‮ ‬ويحصل به العلم، ولو كان خبر الواحد لا‮ ‬يحصل به العلم لم‮ ‬يقع به التبليغ‮ ‬الذي‮ ‬تقوم به حجة الله على العباد، فإن الحجة إنما تقوم بما‮ ‬يحصل به العلم‮.‬
‮ ‬وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬يرسل الواحد من أصحابه‮ ‬يبلغ‮ ‬عنه، فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله، وأفعاله، وسُننه‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"