المأمون.. خليفة ازدهار علمي وفكري مدهش

قامات إسلامية
02:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
بقلم: محمد حماد

هو الخليفة أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، وكانت أمه «مراجل» جارية فارسية، وقد توفيت بعد أيام من ولادته متأثرة بحمى النفاس، ولد في 15 من شهر ربيع أول سنة 17ه الموافق 6 سبتمبر/ أيلول سنة 786م، في الليلة نفسها التي توفي فيها عمه الخليفة الهادي، لذلك يقال لتلك الليلة: إنها ليلة الخلفاء؛ ففيها مات خليفة، وولد خليفة، وتولى خليفة، ولذا سّماه الرشيد المأمون تيمناً بذلك.
اختاره أبوه ولياً للعهد وعمره 13 عاماً بعد أخيه الأمين، وضمه إلى جعفر بن يحيى، وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، ومنحه استقلالاً يكاد يكون تاماً، ثم تولى الخلافة بعد حروب دامت أربع سنوات وانتهت بمقتل أخيه، واستمرت مدة خلافته 19 سنة.
وعلى الرغم من أن المأمون كان هو الابن الأكبر للخليفة هارون الرشيد، ومع كل ما كان يتميز به المأمون من نجابة، وذكاء، وعلو همة، وما حظي به من ثقة أبيه فيه، إلا أن الرشيد لجأ تحت ضغط من زوجته زبيدة إلى تعيين الأمين ولياً للعهد سنة 175ه(791م)، وجعل له ولاية العراق والشام حتى أقصى المغرب، وما لبث سنة 183ه(799م) أن عين المأمون في ولاية العهد الثانية على أن تكون له ولاية خراسان وما يتصل بها من الولايات الشرقية.


على خطى أبيه


أراد الرشيد بذلك أن تستقر الأمور بين الأخوين من بعده، فلا يثور الخلاف بينهما، ولا يحدث ما كان يحدث عادة من صراع حول الحكم بعد كل خليفة، فاستوثق لكل منهما من أخيه، وأشهد على ذلك كبار رجال دولته، ولكن انقسام الدولة العباسية إلى قسمين شرقي وغربي، مع وجود اثنين لولاية العهد كان بذرة التفكك الذي أدى إلى حرب أهلية كبيرة اندلعت بسبب ضعف شخصية الأمين الذي كان يسيطر عليه وزيره الفضل بن الربيع، ودفعه إلى خلع أخيه من ولاية العهد، وعلى الجانب الآخر كان المأمون محظوظاً بوجود شخصيات قوية من حوله ساعدته على الحصول على الخلافة، والانتصار على أخيه الأمين، وانتهى الأمر بمقتل الأمين سنة 198ه (813م)، وتولى المأمون على إثر ذلك الخلافة من بعده في 25 من محرم، 198ه (25 من سبتمبر/ أيلول 813م).
وسار المأمون حين آل إليه الملك على خطى أبيه في الاهتمام بالعلم والعلماء، وشهد عصره نهضة حضارية كبيرة، ويعده المؤرخون من أفاضل خلفاء الدولة العباسية وعلمائها وحكمائها، ولذا قيل لو لم يكن المأمون خليفة، لصار أحد علماء عصره، ولذا شهدت فترة خلافته ازدهاراً علمياً وفكرياً مدهشاً في العصر العباسي الأول؛ لأنه شارك فيه بنفسه.


تشجيع حركة الترجمة


كان المأمون شاعراً، وعالماً، وأديباً، كما كان للفقه نصيب كبير من اهتمامه، وكان العلماء والأدباء والفقهاء لا يفارقونه في حضر أو سفر، وكان تشجيعه للعلوم والفنون والآداب والفلسفة ذا أثر عظيم في انبعاث حركة أدبية وعلمية زاهرة، ونهضة فكرية عظيمة امتدت أصداؤها من بغداد حاضرة العالم الإسلامي ومركز الخلافة العباسية، إلى جميع أرجاء المعمورة، فقد استطاع المأمون أن يشيد صرحاً حضارياً عظيماً، وأن يعطي للعلم دفعة قوية ظلت آثارها واضحة لقرون عدة.
ولعل العلماء والمؤرخين الذين عدوه من المجددين في الإسلام من موقعه كحاكم يستندون في ذلك إلى ما أبداه الخليفة المأمون من اهتمام بالغ بجمع تراث الحضارات القديمة، خاصة الحضارة اليونانية، حيث أرسل البعوث إلى «القسطنطينية»، و«الإسكندرية»، و«إنطاكية»، وغيرها من المدن للبحث عن مؤلفات علماء اليونان، وأجرى الأرزاق على طائفة من المترجمين لنقل هذه الكتب إلى اللغة العربية، وكان لتشجيعه حركة الترجمة أكبر الأثر في ازدهارها في عهده، فظهر عدد كبير من العلماء ممن قاموا بدور مهم في نقل العلوم والفنون والآداب والفلسفة إلى العربية، والإفادة منها وتطويرها.


بيت الحكمة


وامتلأ بيت الحكمة في بغداد بذخائر عظيمة، وكان اهتمام المأمون ببيت الحكمة كبيراً، فأصبح هذا المجمع العلمي، بمكتبته العامة صرحاً لتلاقح الأفكار والحضارات ونسخ الكتب، وداراً لترجمتها إلى العربية، وعين له مديرين ومترجمين ومجلدين للكتب، وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال، فاستفاد المسلمون من هذه الكتب العلمية، ثم ألفوا وابتكروا في كل العلوم، التي أسهمت في نهضة أوروبا يوم أن احتكت بالعرب في الحروب الصليبية، وغيرها.
كما نهض المأمون بمهمة بناء المراصد الفلكية، فأنشأ مرصداً في حي الشماسية ببغداد، وبنى على قمة جبل قاسيون بدمشق مرصداً آخر، وأصدر المأمون برنامجاً منهجياً للدراسات الفلكية في أول المراصد الفلكية التخصصية المقامة ببغداد، ودمشق، وأرسل أول بعثة موسعة لإجراء التجارب العلمية، وكشفت هذه المساعي عن طريقة العلماء العرب في فهم المتون الكلاسيكية واستيعابها لا كغاية بحد ذاتها، بل كنقطة انطلاق لإجراء أبحاثهم ودراساتهم الخاصة، وكانت هذه المشروعات بداية السيرة المهنية لبعض من أهم العلماء والمفكرين الأوائل في الإسلام.
ولجأ الخليفة المأمون إلى علماء بيت الحكمة طلباً للعون على شؤون الدين والدنيا، وطلب منهم تحديد المكان الدقيق لبغداد، ومكة لمعرفة القبلة الشرعية الصحيحة، كما أراد صورة دقيقة لطول وعرض العالم الذي يحكمه.


الانفتاح على الفلسفة


قرّب الخليفة المأمون العلماء والفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وأهل اللغة والأخبار والمعرفة بالشعر والأنساب، وأطلق حرية الكلام للباحثين وأهل الجدل والفلاسفة، وكذلك شجع المأمون المناظرات الكلامية والبحث العقلي في المسائل الدينية كوسيلة لنشر العلم وإزالة الخلاف بين العلماء. ما أدى إلى قوة نفوذ العلماء في الدولة، وكان من أشهرهم أبو عثمان الجاحظ.
وكان للمدارس التي فتحها المأمون في جميع النواحي والأقاليم أثرها في نهضة علمية كبيرة، وكان انفتاح العقل المسلم على بعض فلسفات الأمم الأخرى جعل العلماء يجتهدون في أمور خارج حدود العقل، وتفكيره، ومن هنا نشأ الفكر الاعتزالي الذي يعلي من قيمة العقل، ويجعله حكماً على النص من دون حدود، أو قيود.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"