قبلة الشعراء

02:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبد الله البريكي

بيروتُ بقيّة ٌمن نهار، شرفةٌ منهارة، نصف مدينةٍ تتصيّدها الآلام، لا الكلمات تشفي جراحها، ولا النغمات ترمم الخراب الذي فكك عرى المدينة، ودمّر أسراب الطيور التي كانت تغنّي على الشاطئ الآخر بالقرب من ميناء الفجيعة.
بيروت بدت كسيحة.. معطلة.. مهزومة في معطف الخوف، يرقبها المارة، ويبكيها الصغار في حزنٍ لم تشهده من قبل. بيروت أغنية فيروز في الساحات، وقصيدة قباني «ست الدنيا» التي تتزين بالبهاء والجمال، ترنيمة الأخطل الصغير، قبلة أمير الشعراء شوقي، وجهة الشعراء والفنانين، أغلى جدار، وأجمل لوحة، وسماء مدهشة، كيف أضحت المدينة في ليلةٍ وضحاها خراباً، خراباً، خراباً، لا يتصور العقل أن هذه المدينة المعلّقة في القلوب تسقط في ثوانٍ، ليمضي الناس ليلة على الرصيف وهم يجتازون الدمار، يبحثون عن المفقودين، يستلقون على الأرض من هول المشهد الذي جعل بيروت ساكنةً وعاجزة، تنام تحت مشارط الأطباء، فالقلب مكسور، والأقدام مشلولة، ونظرة الحقد من الجناة تسخر من عظامها المتكسرة وهي تركض كحصانٍ خائفٍ مذعور.
بيروت سطورٌ كثيرةٌ في كتابات الشعراء والمفكرين، منبر الحريّة، متنفّس الألحان، نوافذ مفتوحة، طاولاتٌ جاهزةٌ؛ لاستقبال الضيوف؛ لكن جاء يوم تتصاعد فيه ألسنة الدخان، وتتطاير فيه الشظايا، فهل هذه هي بيروت التي نعرفها؟ هل هذه بيروت الموصوفة لكلِّ مكتئبٍ وحزين؟ هل هذه ملتقى الحب والجمال وقصة النغم في كل زمان؟ بيروت، يا بيروت، يا أغنية العشاق في الحناجر، يا مستودع الكلمات والألحان، يا نزف البحر، وتوقيع الكتاب على رمالك التي لطالما لاذت بها الطيور والمراكب، أين أنت الآن؟ أين البواخر الراسية، والعيون المشرقة، والأمواج التي تلاعب الصغار؟ أين الصباح يظلل عينيك، والهواء يعيد الحياة لكل ظامئ؟ أين أنت يا بيروت؟ قتلتك في لحظة أيدي الخسّة، ونسفت جدرانك الفتنة، وعصفت بك الأحزان من كل جانب، كيف يمكننا أن نمشي على البحر، أن نتسلى بالصيد، أن نتحدث عن الجمال والخضرة والمشاهد التي لا تنام؟
بيروت أرجوك لا تستسلمي للموت السريع، فكل من يحب انتظار الطيور على شواطئك الجميلة، ينتظرونك وأنتِ عائدة بالمحبة، عائدة بكل أمكنتك وقد نجوت بعد موتٍ من يد الطغيان والفتن، فأين سنذهب يا بيروت إن لم تكن شمسك هي الملاذ، وعطورك هي الأغلى، وليلك هو المأوى؟ يا جنة الشعر والكلمات.. بملء فمي أقول: ستنهض بيروت ولن تودع ابتسامتها، فالجالسون على أعتابها يرونها نجمة كل المواقيت، ومصباح طفولة، وأغنية لا تموت، لا.. لا يا بيروت، لن تموتي.. يا ست الدنيا، إن الدنيا بعدك لا تكفينا.
بيروت.. إن الصمت لا يحتفي بالمستقبل المرهون بعودة الحياة إليك، الصمت يعني الاختفاء والسكون، فهنا على الحافة قد عاد الضجيج، وعدتِ يا بيروت لنقطة الصفر، فكيف سنمحي وجه الدمار عنك، وقد سقطت أعلى بناية في أرضك، هنا تتوالى الفراغات، فمن ينقذك من المخاوف والموت؟ وهل يدرك الجناة بأنهم أحرقوا الياسمين، وأشعلوا النار في الجثث؟ لقد طفح الكيل؛ إذ إن الثمن باهظ، والمتاجرة بأرضك وسمائك لعبة عبثية.
بيروت.. يا صديقة البحر، إن الأكاذيب كثيرة، والسلام غائب عن مرافئك، وأنتِ لا تزالين مصدومة؛ بعد أن فقدت روحك الهدوء الجميل، إنها المتاهة يا صديقة البحر، والنظرات تتبعك، ونشرات الأخبار لا تتوقف عن قراءة اسمك في افتتاحيتها، فأنت الضحية في زمن السخافات والأحرف المزيفة والمنبوذين، والرفاق الطيبين، إنهم كرهوا أن يروا وجهك الجميل المشرق والباسم أبداً، كرهوا أن تصفقي للحياة وتوزعي الهدايا على زوارك من كل مكان، كرهوا أن يسمعوا صوتك وهو يغني للجمال، كرهوا الزهور في يديك وحمائم السلام وأشجار التفاح، فزرعوا الخرافة في أرضك ومضوا نحو الضلال.
بيروت.. هنا في الأفق القريب عصافير بانتظارك، وأعشاب خضراء وبشر وأمطار وثياب معطرة، هنا في الأفق القريب وجوه تحب أن ترى عودك الأخضر يهتز في السفوح، لتعود إليك حكايات كنا قصصناها، وشموس كنا زرعناها في سمائك، يا وطن النهار والوصل والمعاني الغزيرة والكلمات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"