مرافئ الحلم

02:05 صباحا
قراءة 5 دقائق
** الشارقة: جيهان شعيب

أرض صناعة الفرح لا يمكن اليوم أن تبكي.. لا يمكن للبنان المفعم بالحياة إلا أن يعبر الحزن، يخطو فوق الألم، يتغلب على الوجع الذي بقدر ما آلمه آلم الجميع؛ فلبنان المزروع بالحب توحد أبناء العالم في عشقه. فهي معادلة بلد ولد سعيداً فأضفى البهجة على أبنائه، وزواره، والحالمين برؤيته.
وهذا هو لبنان في عيون شعراء الإمارات وأدبائها وكتابها، يرونه أرض الأحلام المحققة والمؤجلة، بلد الخيال الحاضر في الذهن، والسارح به البال، يعدّونه مصدر الإلهام، ومحرك إبداعات الأقلام، وجماليات الفكر، ونبضات القلوب. ويؤكدون أنه حالة استثنائية في كيفية العيش رغم الدمار، والألم، والإحباط، ويصرون على أنه لا يمكن إلا أن يعاود الوقوف بقوة من دون ضعف، أو وهن، فبلد مطران، وجبران، وفيروز والرحابنة، وغيرهم الكثير، لا يمكن أن ينكسر، أو ينحني للعاصفة.
قال الشاعر كريم معتوق: الأديب من أكثر الناس عرضة للأذى، كلما أصابت الأمة نكبة، أو كارثة، وحالة الالتزام الأدبي التي يعيشها أغلب المبدعين العرب، تملي عليهم حالة المشاركة بالحزن كما الفرح، فأنا لم أتعاف بعد من كارثة ما يسمى بالربيع العربي، التي أوقفت نمو الدول، وهدمت المنازل، وشردت الشعوب، ومات من مات، من دون مبرر، أو سبب.
ما يحدث في بيروت يؤلم محبيها، وأنا لا أريد الخوض بتفاصيل المأساة، ولكنني أتقن عتب المحب، ولوم العاشق لجمالها، وناسها، وفنونها، بيروت لم تكن عاصمة عربية عابرة، في ذاكرة من زارها، كانت مصيفاً متميزاً، ومائدة عامرة، ووجهة محبة للحياة، ويكفي أن أقول كانت فيروز ليعتصر القلب حزناً.
وقال القاص إبراهيم مبارك: لبنان في الوجدان؛ وردة جميلة ورائعة؛ سرقها الشيطان؛ لبنان سماء العصافير، وفضاؤها؛ الآن أشعل الشيطان فيها النار والدخان؛ جاء بعباءته السوداء حاملاً الشر، والخراب، ثم اختفى في مغارته السوداء؛ ينتظر فرصة ليكرر لعبته وشره، لكنّ كل هذا الخراب والصنيع؛ لن يمر، لن يمنع المحبين من أن يعلنوا عشقهم لمدينة الجمال؛ مدينة الثقافة والفن؛ وبيروت مدينة لا يليق بها غير الصفاء والود؛ مدينة تستحق أن تضع على صدرها الجميل كل صباح، ومساء؛ باقات وأكاليل من الورود؛ هي في عيوننا ماء زلال؛ موسيقى وألحان، بل هي شمعة راقصة؛ في ليالي الحب؛ هي الحمراء؛ الروشة؛ الجبل؛ البحر؛ وشجرة الأرز الخضراء؛ ولبنان مدرسة الحب ووردة العشق؛ وتأبى إلا أن تعود إلى زمن اللؤلؤ؛ فعاش لبنان للحب، والجمال، والعشق.
«جوهرة الشرق وبدايات التاريخ».. هكذا وصفها الكاتب الدكتور. عبدالله سالم بن حمودة، المستشار في معهد الشارقة للتراث فقال: «سلاماً لبنان، جميل هذا النداء، وجميله تلك الدعوات، والأجمل تلك القلوب التي انفطرت، والألسن التي تلعثمت حزناً، وقنوتاً، وحباً، لبلاد الأرز، وجوهرة الشرق، لميلاد السلام ومقامات الأنبياء، لبدايات التاريخ وموطن الحضارة..
سلاماً لبنان، أيها البلد الجريح، جريح الداخل، جريح الأمل، جريح الصمود، والتقلبات التي أثقلت كاهله.


فضل وريادة


بدوره قال الشاعر عبدالله السبب: إذا كانت الدولة، أي دولة، معنية بالتربية الوطنية في مناهجها التعليمية، فإن لبنان الأمة، والأم، معنية في حياتها الثقافية بالتربية الأدبية بكل ما تعنيه هذه المفردة من تفاصيل شعرية، وسردية، ونحن الشعراء والكتاب، هنا في الإمارات أو في دول الخليج العربي، ندين بالفضل الإبداعي لهذه الأم الثقافية التي أحاطتنا بالتربية الأدبية، في الشعر واللغة العربية التي أثرت مفرداتنا.
وأكدت الكاتبة منى خليفة الحمودي، أن ما جرى لبيروت يشكل وصمة عار على صدر الضمير، وقالت: بيروت التي في خاطري هي عاصمة الجمال، ومرافئ الحلم البعيد التي كان يغفو البحر على كتفيها، وتنسجم معه في خلود أبدي، لكن بيروت اليوم ما زالت تلملم شعث ذهولها، وسط ما حدث، من إهمال وتراخٍ، بيروت التي أصبح ثراها جثثاً ودماءً، والذهول حرز «أرزٍ» معلق على تلابيبها، كوصية رحيل، ضمير ميت أرخى سدوله على يوم روتيني، لتغدو بعده الأيام أهوال رعب، ودماراً، وخوفاً، وانتظاراً، على هشيم الأمل، ووقع الألم، بيروت التي في خاطري ترقص اليوم على «دبكة الضمير» رقصة أبدية، يمر على وقع نقعها العابرون، فلا يكترثون لطالع الألم على شواطئها، ولم يسمع أحد أنينها، حتى تلك السفن التي غادرت ميناءها تاركة قبلة الموت على جبينها.
«بيروت خيمة المثقفين، ونجمة المبدعين».. بهذا الاستهلال بدأت الكاتبة أسماء الزرعوني حديثها عن بيروت، وأضافت: «منذ أن عرفت القراءة، وأمسكت الكتاب، عرفت بيروت، وسمعت فيروز طفلة، ومراهقة، ثم وأنا أعزف على الحروف من ذاك اليوم، وتعلقت ببيروت الجمال، واليوم اعتصر حزناً على بيروت، ولكن الحزن لن يدوم، فهي مدينة لراحة الشعراء من درويش وجبران، وغيرهما، وهي ملهمة المبدعين العرب، وستعود بيروت لجمالها، ولثقافتها، ولخضرتها.


شموخ


بدوره قال الشاعر أحمد العسم: لا يوجد كاتب أو شاعر إماراتي لا يحب لبنان، فحبنا لها كحبّنا لبلدنا الغالي الإمارات، ولبنان بلد يأخذ القلب، ويشغل حيزاً كبيراً من التفكير، هو سيرة كل مبدع، ومنه يتعلم المرء كيفية التعاطي مع الحياة، وأبجديات الذوق، فلبنان بلد عظيم، يعيش في جوهر المبدع الإماراتي، فعندما بدأنا القراءة كنا نستعير الكتب الثقافية من لبنان، وننهل منها، حمى الله لبنان من كل سوء، وأبقاها دوماً شامخة عالية، وجنبها الضرر.


رسم الحروف


نظم الشاعر كريم معتوق في لبنان هذه القصيدة:

ولنا... / أنْ نكتب الشعرَ على أطلالِ بيروتَ / لنا... / أنْ نرسم الحرفَ بلونِ الحزنِ / أنْ يكتبنا التاريخُ بالشكل الذي يهوى / وأن ينكِرنا / ولنا... / أشياؤنا الأخرى لنا / خارطةُ الحبِ مجراتٍ لبيروتَ / لنا الشوقُ الذي من ومضهِ قوسُ قزحْ / ولنا أن نذكرَ الأمس وأنْ نبكي الفرحْ.

* * *
ولنا... / يا أيها القلبُ الذي تهفو لبيروت / صباحاً ومساءْ / وإلى الصيف على البحرِ/ إلى ثلجِ الشتاءْ / ولنا أشياؤنا الصغرى / وفنجانٌ من القهوةِ بالوجهِ من الصبحِ / وأصواتُ العصافيرِ على الغصنِ / وفيروز غناءٌ وغناءْ / ولنا ألف اشتهاءْ.

* * *

ولنا... / أنْ نشتهي حريةَ التفكيرِ أو أيَّ كتابْ / ولنا... / أنْ نعصرَ القلبَ على عاصمةِ الرأي / وأنْ نبكي الصحابْ / ولنا بعضُ عتابْ / كيف يا بيروتُ لملمت وأنتِ العسلُ الصافي / على الثغرِ محبينَ يتامى وذبابْ / كيف طوّقتِ بصدرٍ / يشتهي كلُّ محبٍ أنْ تضميهِ / ليلقاك انقلابْ / لمآسيه ينهارُ اكتئابْ / كيف شرّعتِ حِماك الغُرَّ / أدخلتَ المحبينَ وأدخلتِ الذئابْ / كيف يا واهبةِ الفكرِ / و يا عاصمةَ الرأي / تكونينَ لنا هذا العذابْ؟


خريطة ذهنية


قالت الشاعرة الهنوف محمد، رئيسة مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ونائبة الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب: لبنان من الدول الثقافية العريقة التي شكلت خارطة ذهنية ثقافية، وأدبية واضحة لكل كاتب عربي وإماراتي، فمن لبنان تعلمنا الرقي المعرفي، ولبنان هو الضمير الثقافي، وأحد البنى الراسخة في الأدب العربي، انفتح نحو الإبداع، والترجمة، وثقافات الشعوب والحضارات العالمية، وأدب المهجر. وبالنسبة لتجربتي الشخصية، ففي لبنان ومن دار «الجديد» تحديداً أصدرت ديواني الأول «سماوات»، ومن جامعة «سانت جوزيف» اللبنانية حصلت على الماجستير في الترجمة التحريرية، فلبنان درّة الثقافة، وارتباطه عميق وراسخ في الوجدان الإماراتي والعربي. أتمنى من العلي القدير أن يحمي لبنان ويعيده إلى سيرته الأولى.


راية السلام


الدكتور محمد حمدان بن جرش، الأمين العام لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات، قال: لبنان ضمير (الثقافة) هكذا رسخ في عقولنا منذ الصغر، وهكذا تغلغل حب لبنان في قلب كل كاتب، وقارئ، ومبدع، فلبنان بلد عظيم، ونموذج رائع يضرب فيه المثل في التنوع الثقافي، والحوار الإنساني، والتعايش، والتسامح، والسلام، زفّ للعالم كوكبة من الأدباء والشعراء، والمفكرين، جعلت بيروت مركزاً ثقافياً، وأدبياً مشرقاً، واليوم تبكي القلوب ونحن نشاهد الخراب، وتلك الأحداث المؤسفة التي تستنزف الطاقات، والممتلكات.. أهكذا يمزق الإرث الحضاري والثقافي، لبلد يرفع راية السلام؟».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"